ومن “الحُب” ما قَتَلَ… رافايـيـلُّو
لوحة “دفن المسيح” لرافاييلو (1509)
بين ولادته في مدينة أُوربينو (وسط إِيطاليا) نهار 27 آذار/مارس 1483 ووفاته في روما نهار الجمعة العظيمة في 6 نيسان/أَبريل 1520، سحابةُ 37 سنة عاشها رافاييلُّو سانتو في قلقٍ مرةً وفي صخَب مرات. وبقي سببُ موته طويلًا يثير أَسئلة وتكهُّنات.
في هذا المقال أَضواء على بعضها.
تكَهُّنات حول سبب وفاته
حين كان في فلورنسا، الْتقى منافسَيْهِ الكبيرين ليوناردو دافنتشي (1452-1519) ومايكل إِنجلو (1475-1564) وكان يجهد أَن يبُزَّهما بأُسلوبه المغاير لكن ذلك خلق له قلقًا دائمًا في منافستهما رافقه حتى وفاته. وكثرت حول وفاته الآراء، بينها أَنه مات محمومًا بالسِفِلِس، ومنها أًنه مات بجرثومة تُشبه ما تفشى أَخيرًا من فيروس الكوفيد 19 أَو الكورونا.
ومعظم التكهنات دارت حول ما عُرفَ عن انغماسه في حياة جنسية صاخبة، بالتقاطه جراثيم من تلك المسيرة الفاحشة.
مات بكورونا ذاك الزمان
صدرت أَخيرًا دراسة طبية مدققة في المجلة الإيطالية المتخصصة التي تصدرها “الجمعية الإِيطالية للطب الداخلي”، نظَّرَت أَنَّ ما قيل قبْلًا ليس دقيقًا بل أَن ذاك الرسام العبقري مات من جرثومة ضربت رئتَيه. والباحثون الذين وضعوا تلك الدراسة (من جامعة ميلانو بيكوكا) ذكروا أَن الأَطباء أَخطأُوا في تشخيص سبب الوفاة فعالجوا حُمَّاهُ خَطَأً بالفصد، ما عجَّلَ في وفاته عوض أَن يساعد على شفائه.
في تصريح إِلى جريدة “الغارديان” البريطانية قال أَحد أُولئك الباحثين الإِيطاليين مايكل أُوغستو ريفا: “تأَكَّدنا من أَن الفصد أَدى إلى وفاته. فالأَطباء عصرئذٍ كانوا يفصدون المرضى لعلاج عدد كبير من الإِصابات لكنه لم يكن نافعًا لإِصابة الرئتَين. يومها لم يعرفوا بالضبط سبب إِصابة رافايــيـلُّو أَو عوارضها ففصدوه. وكان ريفا اطَّلع مع فريقه على نص من مؤَرخ الفن جيورجيو فاساري (1511-1574) وصف فيه وفاة رافاييلو، إِذ روى أَن البابا يوليوس الثاني أَرسل أَمهر أَطباء روما ليعالجوا الرسام المريض الذي، لِحجْب مغامراته العاطفية والجنسية، أَخفى عنهم خروجه السري ليلًا في برد شديد كي يعاشر عشيقاته، كما ذكر المؤرخ فاساري. من هنا أَعلن ريفا لـ”وكالة الصحافة الفرنسية” أَن خطأً طبيًّا مضافًا إِلى تكتُّم المريض عن قول الحقيقة هما اللذان سبَّبا وفاته. ومن هنا عزا ريفا سبب الوفاة إِلى إِصابة الرئتين بجرثومة تشبه الكورونا اليوم مع حرارة متواصلة عالية.
مبالغة في حياته الجنسية
عند وفاته شابًّا في السابعة والثلاثين، كان رافاييلو بين أَشهر فناني أُوروبا، وهو اليوم يُعدُّ أَحد ثلاثة عباقرة خالدين: ميكالانجلو وليوناردو دافنتشي.
وفي كتابه “سِيَر الفنانين”، يؤَكِّد جيورجيو فاساري، وهو من أَكثر مؤَرخي عصره ثقة، أَن رافاييلُّو تُوُفي من كثرة ممارساته الجنسية. ولهذا تبرير واضح في تلك العصور الوسطى بأَن الجسد تحكمه الشهوة، وصحته قائمة على الاعتدال في الانصياع للشهوة، وهو ما لم يتنبَّه له رافاييلو فانصرف إِلى الإِغراق في شهواته بلا وازع ولا تَنَبُّه. وإِذ أَصابته حُمَّى قوية ذات حرارة عالية أَخفى السبب عن أَطبائه فراحوا يتكهَّنون في إعطائه علاجات أَدت في النهاية إلى وفاته.
لوحة “فُرنارينا” (1518)
عشيقتُه الأَخيرة
من كانت آخر عشيقة في سريره؟
لم يتزوج رافاييلُّو، لكنه ارتبط سنة 1514 بالسيدة ماريَّا بابيينَا (ابنة شقيق الكاردينال بابيينَا). لم يكن متحمسًا للزواج منها، وهي توفيت سنة 1520. لكنه عرف عشيقات أُخريات، لكنَّ أَبرزهنَّ علنًا كانت الجميلة جدًّا مارغريتا لوتّي (لا فُرنارينا = ابنة الفرّان) التي كتب عنها غوستاف فلوبير في “قاموس الأَفكار الوافدة”: “كانت فُرنارينا جميلة جدًّا. هذا كل ما يجب أَن تعرفوا عنها”. صحيح أَن فاساري لم يأْت على ذكرها في تأْريخه، لكن اسمَها ورَد مرتين ضمن حاشيتَين من موسوعة في القرن السادس عشر عنوانها “سِيَر أَشهر الرسامين والنحاتين والمهندسين المعماريين”.
وسنة 1806 روى ملخيور ميسِّيريني (1773-1849) في سيرة رافاييل كيف التقيا للمرة الأُولى فهام به رافاييلو من اللحظة الأُولى إِذ رآها في روما تغسل قدميها في نهر التيبر عند طرف حديقة قرب بيتها في حي تراستيفيري، فحدَسَ أَن “فكرها ساحر كما جسدها”. ورسمها في لوحة خالدة هي بين أَفضل وأَجمل لوحاته على الإِطلاق.
وصيَّتُه الأَخيرة
عن فاساري أَن مرضه الأَخير استمر 15 يومًا. وحين وعى خطورة إِصابته اعترف بمغامراته النسائية، واقتبل المشحة الأَخيرة، وأَملى وصيته الأَخيرة تاركًا فيها لعشيقته مبلغًا كافيًا تتولَّى نقلَه إِليها خادمتُه بافييرا، وتاركًا أَعماله في المحترف لعُهدة صديقَيه الفنانَين جوليو رومانو (1499-1546) وجيوفاني فرنشسكو (1490-1528). وطلب في وصيته أَن يُدفَنَ في بانتيون روما إِلى جانب ماريا بابيينا فتم له ذلك بعد جنازة فخمة حاشدة، ونُقِشَت على ضريحه هذه العبارة كتبها بيياترو بامبو (الكاردينال لاحقًا)، “هنا يرقد رافاييلُّو الذي على حياته خافت الطبيعة على حالها، وحين كان يحتضر خافت أَن تموت معه”. وكتب المؤَرخ فاساري: “حين أَطبق رافاييلُّو عينَيه أَصيب الرسْم بالعمى، وحين مات رافاييلُّو مات معه فنُّ الرسم”.