30 تشرين الأول 2007 العدد 12361 السنة 36
أبْعدُ من الإعجاب بما قام به رجل الأعمال الأميركي وورِن بافيت (في تخصيصه 83% من تبرعاته لمؤسسة بيل غيتس الخيرية) كونُ هذا المتواضع القلب والسلوك ثالث أغنى رجل في العالم (بعد الأميركي بيل غيتس والمكسيكي اللبناني الأصل كارلوس سليم الحلو) بثروة تبلغ اليوم (حسب مجلة “فوربس” المخصَّصة لأغنى أغنياء العالم) نحو 52 مليار دولار. أي أن تبرعه “المتواضع” بلغ نحو 44 مليار دولار (قيمة الدين العام الحالي لدولة لبنان).
من تواضع هذا الكبير أنه بدأ موزِّع صحف على أبواب البيوت، ولا يزال يسكن في البيت نفسه الذي اشتراه قبل 50 عاماً (في بلدته الأُم أوماها من ولاية نبراسكا) ويقود هو سيارته (موديل 2001) لا سائق لديه ولا أيّ “حرس شخصي” (كزعمائنا في هذا العالم العربي التاعس كزعمائه)، مع أنه حاز هذا العام (2007) على لقب “أحد أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم”.
من تجربة وورن بافيت (77 عاماً) يتّضح أن ثروته كانت ستبقى مكتومة، وهو مكتوم معها، لو لم يبادر الى التبرُّع لأعمال الخير التي (وفق تقرير مؤسسة بيل غيتس) تتضمّن في جزء كبير منها تبرعات لأعمال ذات صفة ثقافية وإبداعية.
ومن هذه البادرة النبيلة الى جميع الأثرياء العرب “الموهوبين” بهوايات رياضية و”خاصة” وتسلوية تذهب بأموالهم مكتومة، وبهم معها مكتومين لا يتركون وراءهم سوى ذكْرٍ سيّئٍ غالباً بسبب فظاظتهم وعجْرفتهم وسوء سلوكهم مع الآخرين “العاديين”، وبشكل أكثر فظاظةً وجلافةً مع مثقفين ومبدعين هم، في نظر أولئك الأغنياء، من طبقة “مسكينة” تعيش على الاستجداء. لكن نظرهم الأقصر من أنوفهم لم يزيّن لهم بأن الخلود هو للمبدعين، ولا خلاص للأغنياء (إن أرادوا ألاَّ يموتوا يوم يموتون أو ربما قبل موتهم) إلاّ بأن يتقرَّبوا من المبدعين يُلصقون بهم أسماءهم ليظلّ بعدهم ذكْر تبريري لثروة أو قيمة مالية ساندوا بها مشروعاً إبداعياً.
سنة 1869 انتهى شق قناة السويس، وأراد الخديوي اسماعيل أن يحتفل بالحدث الكبير في عمل يخلّده ويخلّد العمل، فكلّف المؤلف الموسيقي الكلاسيكي جيوزيبّي فيردي بوضع عمل للمناسبة، فكانت أوبرا “عايدة” التي كان مقرراً تقديمها في “دار الأوبرا المصرية” التي ابتناها الخديوي وأصرّ على إنهاء بنائها عامئذٍ وتجهيزها كي تستقبل أوبرا “عايدة”. ومع أن ظروفاً لوجستية حالت دون تقديم “عايدة” في الوقت المناسب (بل بعد سنتين: 1871) فقليلون جداً من يعرفون اليوم أن مهندس القناة هو الفرنسي فردينان دو لوسيبس، أو يعرفون متى انتهى شق قناة السويس، أو ماذا حقّق الخديوي اسماعيل من إنجازات سياسية وإدارية على عهده، أو متى توفي اسماعيل، أو متى توفي فيردي نفسه، لكنّ التاريخ يسجِّل كلَّ يوم حتى اليوم بأن الفضل في بناء “دار الأوبرا” وفي الإيعاز بأوبرا “عايدة” يعود الى الخديوي اسماعيل. ولا يمكن تقديم أوبرا “عايدة” في أية مدينة أو أية لغة في العالم كلّه، إلاّ بذكر واضح في النبذة عن الأوبرا أنّ الفضل فيها يعود الى الخديوي اسماعيل.
فليتّعظ الأغنياء العرب (وما أكثرهم) بأن تبرُّعهم لإنْجاز عمل إبداعي (صالة مسرح، صالة معرض تشكيلي، قاعة محاضرات، مبنى جامعي،…) يكفل لهم ثروة خلود تسخر من ملايين لهم لن تنفع اسمهم قط، وسيبدِّدها أبناؤهم من بعدهم.
إن عملاً إبداعياً واحداً يحمل اسم من تبرَّع بتنفيذه (في جامعة أو في مدينة أو في مبنى أو في حرم ثقافي) يضمن لصاحب التبرُّع اسماً خالداً لن تضمنه ثروته ولا جميع ثروات العالم.
إن المال، مهما فاض الى مليارات، يبقى زئْبقاً زائلاً. ووحده التبرُّع ببعضه لأعمال إبداعية يجعل صاحبه لا الى زوال، ولو زالت ثروته حتى الفلس الأخير.