22 نيسان 2007 العدد 12160 السنة 36
أزور سنوياً عدداً من الثانويات والجامعات، مدعواً من مسؤوليها إلى إلقاء مُحاضرةٍ أو عقد لقاء مع التلامذة (الثانويين) والطلاب (الجامعيين). وهذا يُسعدني لأنه يَجمعني بأبنائنا من الجيل الجديد، فأتابع نبضهم الثقافي والعلمي والمعرفيّ.
غير أنّ زياراتي، هذا العام، مشوبةٌ بِخيبة مريرةٍ يُحاصرها القلق: الخيبة مِمّا عاينتُ في صفوف التلامذة والطلاّب، والقلق من رؤيتي هذا الجيل الفتى والشاب يكبر على مثلّث خطأ وخطل وضلال قد يودي بلبنان الغد إلى كوارث أسوأ مما هو عليه اليوم.
فمع أني أحادثهم في شؤون ثقافية وأدبية وفنّية ومدنية (المدنيات من أشد ما يحتاجه اليوم جيلنا الجديد ليتعلّم السلوكيات والأخلاقيات الاجتماعية والوطنية العامة)، لا يَهمُّهم إلاّ أن يوجّهوا إليّ أسئلةً في السياسة يبدو من سائلها أنه منحاز إلى هذا أو ذاك من السياسيين، ويطلبون أجوبة انْحيازية مُماثلة تُرضيهم (وإلاّ فتحوا مناقشة استطرادية كي يأتوا بي إلى انحيازهم) أو يهاجمون هذا أو ذاك من السياسيين أو ينتصرون لهذا أو ذاك، وفي الحالتين موقف ببغاوي انفعالي عاطفي لا ركيزة عقلانية له.
وعبثاً أشرح لهم، بكلام دبلوماسي مَرة، وأشدّ قسوة مرات ألاّ يكونوا قطيعاً وراء أحد من السياسيين ولا أغناماً في مرعاه، ولا حبوباً في سبحته، ولا حطباً في موقدته، ولا أكتافاً يَمتطيها كي “يُحيّي الجماهير”، ولا عبيداً لديه يستخدمهم لتعليق لافتاته وكتابة شعاراته على الجدران، ولا أصداء عمياء تردِّد اسمه “بالروح، بالدم، نفديك يا…”، ولا رؤوساً قطعانية يتباهي بأنه يأمرها بالنّزول والهرولة إلى الشارع والتظاهر فتنْزل، ويأمرها بالإضراب فتُضرب، وينشرح قلبه ويتباهى بأنه يملك الآلاف بإمرته، وسواها من مفردات قاسية أطرحها على مسمع التلامذة والطلاّب، لكنها كلمات تعود إليّ بدون فاعلية، لأن الذين أمامي عُمْيٌ، بُكْمٌ، صُـمٌّ، مغسولو الدماغ، لا فائدة تُرجى من تنويرهم وتفتيح أبصارهم على ما هم عنه معميّون.
تلك هي الخيبة المريرة الحامضة المالحة التي أشعر بها كلما خرجتُ من لقاء في مدرسة ثانوية أو محاضرة في جامعة.
أما القلق، فلأنّ هؤلاء الفتيان والشباب يكبرون على الخنوع والاستسلام والاستزلام، لا هم فاهمون جوهر المسألة اللبنانية (بل تابعون عميانياً ببغاوياً أغنامياً زعماءهم السياسيين بدون جدال ولا نقاش)، ولا هُم مرشّحون للتعلق بالوطن دون سياسييه. فمعظم المجتمع اللبناني اليوم صار قطعاناً مسيّسةً متنافرة متنابذة متناوئة تشير إلى غدٍ لبناني يتسلم مقاليد الحكم فيه مسيَّسون منحازون يعملون لأشخاص وزعماء لا لبناء دولة ومستقبل وطن. وهذه هي الكارثة التي إذا لم نتداركها اليوم في المدرسة والجامعة، سيكون لنا لبنانٌ مُقبلٌ لا على أفق مفتوح، بل على نَفَقٍ أشدَّ ظَلاماً وظُلماً وظَلامةً وظَلاميّةً وتَظلُّماً واستظْلاماً مِما هو عليه اليوم.