الفكر الإِنساني في أَشهر خمسة كتب (1)
تمثال أُوريليوس على حصانه في ساحة الكابيتول (روما)
أَن تتولى منشورات “بنغوان” (تأَسست في لندن سنة 1935) إِنشاء قسم خاص سنة 1946 للكتب الكلاسيكية لتنشُر فيه كتبًا خالدة معظمُها مترجَم من لغته الأَصلية، فدليلٌ على اهتمامها أَساسًا بالمؤَلفات التي سجَّلت حضورها الدائم في الفكر الإِنساني. من هنا إِصدارُها أَخيرًا طبعة جديدة من كتاب “التأَمُّلات” للأَمبراطور ماركوس أُوريليوس و”جمهورية” أفلاطون.
في هذا المقال أُعالجُ خمسة كتب عالَمية تشكِّل منعطفًا راهنًا للفكر الإِنساني.
في هذا الجزء نبذة عن الكتاب الأَول منها.
تمهيد الدخول إِلى عالَم الفكر
كيف يُمكن بلوغ الجوهر من عمق المفكِّرين الخالدين في كل زمان؟ وهل صحيح أن قراءة كتُبهم تغيِّر في طريقة العيش والتفكير واعتماد نهج جديد في الحياة، انطلاقًا من فلسفاتهم وخبرتهم؟
إِن الولوجَ إِلى عالَم الفلسفة دخولٌ إِلى اكتشاف معطيات ثقافية وفكرية لا حدود لها، ليس لها دليلٌ أَوضحُ من كتُب الفلسفة التي تحاول دومًا أَن تجد حلولًا لمعضلات الإِنسان في ذاته وفي بيئته.
من أَشهر تلك الكتب الفلسفية: “جمهورية” أَفلاطون التي تبحث في طبيعة العدل والمجتمع الأفضل، و”تأَمُّلات” ماركوس أوريليوس وهي مجموعة خواطر واستلهامات دوّنها الأمبراطور الروماني وفيها آراء في الحكمة والفضائل والتقشف وفن عيش الحياة في الشكل الـمُفيد.
هذان الكتابات، ومجموعة أخرى معهما، منارةٌ هاديةٌ للتساؤُلات الأَساسية الجوهرية عن الكيان والوجود والأَخلاق والمعرفة والمجتمع، ما يلقي نورًا على أُمور قد تكون في متناول الفكر الإِنساني لكن الإِنسان لا يتنبَّه لها إلّا حين يطالع نتاج كبار المفكرين.
فماذا عن هذه الخمسة الكُتُب؟
الكتاب الأول: تأَمُّلات ماركوس أُوريليوس
هي مجموعة 12 كتابًا وضعها هذا الأمبراطور الروماني (121-180)، طالعًا من تأْثيرات الفلسفة الرواقية، مقدِّمًا في كتاباته أضواء على المنطق والإيمان والانضباط الذاتي. من هنا أهمية نصوصه في وعي الراحة النفسية والحكمة والاندفاع نحو الأفضل، ما يُذهل أن تكون لديه قبل 2000 سنة، خواطر ما زالت تثير حتى اليوم مسائل أساسية يحتاجها الإنسان المعاصر في حياته اليومية أَنَّى يكُن على هذا الكوكب.
كتاب “التأَمُّلات” لدى منشورات “بنغوان”
تدوين يومياته
الاصل أن هذا الأمبراطور العظيم، في السنوات الأخيرة من حياته، أخذ يدوّن يومياته، لا في تسلسل زمني أو موضوعي، بل كيفما اتفق أَن يفتكر بالخاطرة أو الفكرة، يدونها كي يستفيج هو منها أولًا في سيرته ومسيرته، فكانت هداية له في قوة الاحتمال والإرشاد والتطور الذاتي، ومخاطبة مجلس الشيوخ بلهجة نابضة لا تُضْجرُهم واختيار الكلمات الأنسب وفق ظروف الـمُخاطَب فردًا كان أو جمعًا.
في هذا السياق الفكري، يجيء كتابه وثيقة فريدة من نوعها، خطَّها رجل فريد في التاريخ، بين أقوى الأباطرة والزعماء في العالَم، انتهج في سيرته ومسيرته ما اختطّه لذاته قبل أَن ينصح به السوى، فطبَّقَه هو أوّلًا، ما ساعده على القيام بمسؤُولياته القيادية العظمى. كلُّ ذلك ينبع لديه من نشأَته الرواقية التي كان يزاول تمارينها الروحية كل ليلة قبل أَن يذهب إلى النوم، وهي تمارين تدربه يوميًّا على التواضع والصبر والكرَم والتعاطف والإلفة ومواجهة أصعب الأمور التي قد تطالعه في حياته. وهذا ما ساعده فعلًا إذ جاء وقتٌ كان خلاله حاكمًا على ثلث الكرة الأرضية.
أَثرها في القارئ
جميع هذه الخبرات سجَّلها تأَمُّلاتٍ وخواطرَ في كتابه، تترك أَثرَها في قارئها فيعمد إِلى تَبَنّي معظمها من أَجل ظروفٍ لحياته أَفضل. وما يُذهل أَكثر، أَن فيه حلُولًا بسيطةً لمشاكل معقَّدة قد تعترضه كل يوم. ومن أَبرز ما يستخلص القارئ: إِدارة توقُّعاته تنقذه من مشاكل كبرى قد يستغني عنها قبل حصولها. ويتم ذلك بالتركيز على داخل المسألة قبل خارجها وردود فعل الآخرين عليها. ذلك أن حُسْن التوقُّع يؤدي إلى حسن الاستباق فلا تقع مفاجأةٌ سيئة. هذه هي قوة استباق التالي قبل حصوله. وهذا أَفضل علاج مسبَق لأَي خلل مسبق قد يحدُث، أو لأي أمر يحدس به الإنسان أن يحصل فيتجنب حصوله أو على الأقل يتوقع وقعه الـمُدوّي إن حصل. وهذه الخبرة تنطبق على أمور يومية كالزواج ومزاولة المهنة وبناء العلاقات مع الآخرين.
من خواطر أُوريليوس: “كن متسامحًا مع السوى وحازمًا مع ذاتك”
ترجمة غريفْسْ
الطبعة الجديدة الصادرة عن منشورات “بنغوان” في لندن، هي التي كان ترجمها مباشرةً عن اليونانية القديمة الأصلية الشاعر الإنكليزي ريتشارد غريفْسْ (1715-1804) وأصدرها سنة 1792 ثم صدرت بعد وفاته طبعة ثانية لها سنة 1826 مع إضافات عن سيرة أوريليوس. وغريفْسْ هو صاحب الرواية الشهيرة “دون كيشوت الروحاني” وفيها يعلِّم دون كيشوت القارئ كيف يعيش حياة أَفضل، وكيف ينظر إِلى أَعماق ذاته قبل أَن يرى إِلى الآخرين.
ماذا عن الكتب الأربعة الباقية؟
هذا ما أوضحه في الجزء الثاني من هذا المقال.