يوسف أسطفان: رسالتان إِلى جبران
الشيخ يوسف أسطفان (بالطربوش) في حكومة إميل إده
بعدما تم الاتفاق بين فارس أسطفان صاحب جريدة “الهدى” النيويوركية، وبيني إِذ كنتُ رئيس تحريرها، على إِيقاف الصدور، ويومها (السنة 94 – العدد 11- الجمعة 8 أَيار/مايو 1992) كتبتُ الافتتاحية الأَخيرة بعنوان “… وبعد 94 سنة في ساحة النضال، تتَّكئُ “الهدى” في استراحة المحارب”، لم يعُد لفارس أسطفان داعٍ للبقاء في مانهاتن (نيويورك) فباع بناية “الهدى” وانتقل إلى مدينة إِيستون (ولاية بنسيلفانيا)، وكنتُ لأتردد إليه هناك قبل أن يعصف بي الشوق للعودة نهائيًا إِلى لبنان، وهو ما نعمتُ به أخيرًا في نهاية 1994.
أَسوق هذه المقدمة لأَقول إِني، حين أَزور إيستون، كان فارس أسطفان يجمعني بأعضاء ناشطين من “الجمعية اللبنانية الكفرصغابية” فرع إيستون، والكفرصغبيون مجموعة واسعة من أنشط المهاجرين اللبنانين في الولايات المتحدة.
وبين مَن كانوا يحدِّثونني عنه في إِجلال، مواطنهم الكفرصغابي النائب والوزير الشيخ يوسف أسطفان. ولم أعرف عنه الكثير يومها، حتى جاءني قبل أيام كتيِّبٌ عنه صدر سنة 1997 في الذكرى الخمسين لوفاته.
من هي؟ ومن هو؟
كفرصغاب، إلى شمال وادي قاديشا، بلدة عريقة بتاريخها، ذات جناحين: صيفًا كفرصغاب قرب إهدن، وشتاءً مرح كفرصغاب قرب زغرتا. من أكثر أبناء البلدات اللبنانية انتشارًا، خصوصًا في الولايات المتحدة وأُستراليا.
والشيخ يوسف أسطفان (1890 – 1947) فقَد والديه طفلًا فتعهدته جدته وجعلت وصيًّا عليه (وعلى شقيقه سايد) المطران الياس الحويك الذي، لدى انتخابه بطريركًا (1899)، أمر بنقل يوسف وشقيقه (سنة 1902) إلى مدرسة عينطورة. بقي فيه خمس سنوات ثم عاد مقرَّبًا في بكركي والديمان من “بطريرك لبنان الكبير”.
بعدما تم إقرار الدستور اللبناني بتواقيع أعضاء المجلس التمثيلي الثاني (1926) وتأسيسهم أول “مجلس شيوخ” (القرار 305 تاريخ 24 أيار/مايو 1926) مشكَّلًا من 16 عضوًا، كان بين أبرزهم الشيخ يوسف أسطفان (ومنهم محمد الجسر، عبدالله بيهم، ابرهيم حيدر، إميل إده، حبيب باشا السعد، أيوب تابت،…).
جولة على الجوالي اللبنانية
سنة 1928 كلفته الحكومة اللبنانية القيام بجولة على المهاجرين اللبنانيين في الولايات المتحدة وأستراليا، كما مثّل لبنان عامئد لدى المؤْتمر الدولي في باريس، ونسج علاقات مع الفرنسيين النافذين يومها في القضية اللبنانية ومنهم الجنرال غورو. وعاد من تلك الجولة الواسعة فكتب تقريرًا عنها مفصَّلًا بعنوان: “المهاجرون اللبنانيون: عددهم، نهضتهم الفكرية، عاداتهم”، ورفعه إلى المجلس النيابي في 25/11/1929.
نائبًا فوزيرًا
في 18/11/1927 تم حل مجلس الشيوخ ودمجه بأول مجلس للنواب (46 عضوًا) فكان الشيخ يوسف أسطفان عضوًا فيه، كما في المجلس النيابي الثاني (1929-1931)، وفي المجلس النيابي الرابع (1937-1939) ثم الخامس (1943-1947).
سنة 1938 شكّل الرئيس إميل إده حكومةً كلف فيها الشيخ يوسف أسطفان بحقيبة الداخلية، فكان بذلك أول نائب وأول وزير من شمال لبنان.
الشيخ يوسف خارجًا من مجلس النواب (1943)
الرسالة الأُولى
خلال رحلته سنة 1928، زار بوسطن وعرف بوجود جبران فيها، فكتب إليه، كنائب، رسالةً دعاه فيها إلى زيارة لبنان، هنا نصُّها:
“إلى جناب النابغة اللبناني الشاعر الناثر السيد جبران خليل جبران الأفخم
سيدي وصديقي
إن جمهورية لبنان الفتية تنظر بعين الارتياح إلى أبنائها المهاجرين وعليهم تعتمد في سيرها في طريق الرقيّ والتقدم، في معارج النجاح. ولا يخفاكم أن مظاهر تقدير الوطن نوابغه حق قدرهم، هي من أكبر الأدلة وأعظمها على رقيّ الدولة وصمود الوطن في سلّم النهضة الصحيحة. ولما كان وطننا اللبناني يفتخر برجال الأدب الذين يرفعون اسمه إلى ذروة المجد العليا بتآليفهم وكتاباتهم، وكنت أنت أيها السيد في طليعة أبناء لبنان الممتازين بنبوغهم، رأيت أن أرفع إليك باسم الجمهورية اللبنانية التي أمثلها وقتيًّا في هذه البلاد الكبيرة، دعوة قلبية راجيًا أن تأخذ من أوقاتك الثمينة فسحة تقضيها في ربوعنا العزيزة التي تحت سمائها الصافية رأيت النور وفي ظلال أرزها خزّنتَ القوة والنشاط ومن جمال طبيعتها استمديت الوحي والإلهام.
فإذا تلطفت بقبول هذه الدعوة، جعلت لوطنك فرصة ثمينة لإظهار ما يكُنُّهُ من الاعتبار والتكريم نحو نوابغه الذين يحق له الافتخار بهم ، وبعد أن تقوم الجمهورية نحوك بما يجب عليها في مجال الاستقبال الوطني أتشرف بأن أدعوك لتحلَّ في بيوتنا ساحلها وجردها، كل مدة وجودك في الوطن المحبوب.
وبملْء الأمل والرجاء بقبول دعوتي هذه أتشرف بتقديم احترامي الممتاز
بوسطن في 16 آب 1928
الداعي: يوسف أسطفان النائب اللبناني
الرسالة الأُخرى
ويبدو أن المصادفة عادت فجمعتهما في بوسطن، وكان لقاء بينهما محبب، عبَّر عنه الشيخ يوسف في رسالته الأخرى إلى جبران وهنا نصها:
“سلام على المواطن النابغ
أصعب مواقف الكتابة موقف الكاتب إليك، فأيُّ إنشاء لا يتصاغر أمام إنشائك؟ وأيُّ بيان صحيح أمام بيانك؟ إذًا فأنا أترك البيان وأساليب الإنشاء، وأتقدم إليك بالعاطفة المجردة وحدها، العواطف التي هي لغة القلوب.
إن تقريري الرسمي للحكومة اللبنانية سأقدمه قريبًا وهو حامل ما لجبران من يد بيضاء على الاسم اللبناني. ولن أنسى ما حييت وقتًا قضيته بالقرب من جبران استفدت منه لشخصي ولوطني إنها تذكارات جميلة ترافقني مدى العمر.
اطلعت في صحف الأخبار على حفلة إكرامك، تلك الحلفة التي لو درى بها كل معجب بك لحمّلوا أسلاك البرق بعض ما تحمله أسلاك القلوب من العواطف. إن المحتفلين، وإن لم يرددوا اسم لبنان عاليًا، الوطن الذي حملك رضيعًا وأرسلك إلى عالم الأدب والفلسفة، فإن أغصان الأرز العالي لتصفق طربًا لتكريم ابنه الحبيب جبران خليل جبران.
أرجو أن لا تنسى أن لك صديقًا مخلصًا وفيًّا خير أمانيه أن يدوم هناؤك ويسطع طويلًا نجم نبوغك ويظل لك الصديق الوفي المخلص
يوسف أسطفان”
رسالة الجنرال غورو إلى الشيخ يوسف (7 شباط/فبراير 1927)
جبران… لا جواب
مع الأسف لا نملك أَثرًا لأَي جواب من جبران عن رسالتَي الشيخ يوسف أسطفان، ونعرف أن جبران لم يستجب لدعوة الذهاب إلى لبنان، طالما أنه – بحسب رواية النحات البوسطني خليل جبران في كتابه عن نسيبه جبران – لم يلبِّ دعوة صديقه (أَيام الحرب العالمية الأولى) الدكتور أيوب تابت سنة 1928 (وكان وزير الالداخلية والصحة) بالذهاب إلى لبنان والعمل على نهوض الجمهورية الفتية عهدئذٍ بعد دستور 1926.
عاد إنما… مُطفَأَ العينين
لكننا نعرف توقًا دائمًا لدى جبران بالعودة إلى لبنان، إلى وادي قاديشا، إلى بشري، إلى دير مار سركيس، خصوصًا من حديثه ذات يوم إلى ميخائيل نعيمه: “أمنيتي يا ميشا أن أعود فأَرى وادي قاديشا ودير مار سركيس”. ولم يتسن له ذلك، حتى عاد إلى بقعة حلمه إنما… من دون النور في عينيه.