فان غوخ – غوغان: العلاقة الغريبة
فان غوخ: “الشارع أَمام البيت الأَصفر” (1888)
في السائد القول: “لا تَــعِــشْ في علاقة يوميّة مع صديقك، فقد يؤَدّي هذا إلى انهيار الصداقة بينكما”. ولعل العلاقة الغريبة بين فان غوخ وغوغان دليل إلى ذلك.
فما الذي كان بينهما؟
لقاءٌ أَوَّل وتبادُل لوحات
بدأَت علاقتُهما تبادُلًا بريئًا صافيًا: الْتَقَيا للمرة الأولى في باريس سنة 1887. كان فنسنت فان غوخ غادر آنفيرس (مدينة بَـحرية كبرى في بلجيكا) والتحق بشقيقه تيو في باريس. وكان بول غوغان فترتئذٍ عائدًا من المارتينيك (جزيرة فرنسية في الكارايــيــب) ومعه مجموعة كبيرة من لوحاته الغريبة الأَلوان والخطوط، انسحر بها فان غوخ الذي رأَى فيها أَعمالًا لمبدع “يرسم فنًّا للمستقبل”. وغوغان بدوره رأَى في الشقيقَين فان غوخ مدخلًا لشبكة علاقات قد تُساعده على تسويقٍ لأَعماله يدر عليه مردودًا ماليًّا كان في حاجة شديدة إِليه.
تبادل الرسامان لوحات لهما: فان غوخ أَهدى غوغان دراستين للوحته “دوار الشمس”، وغوغان أَرسل إِلى فان غوخ لوحته “على ضفة البحيرة في المارتينيك” كان رسمها سنة 1887. ومن يومها أَخذ الرسامان يتبادلان الرسائل والأَفكار.
نحو البيت الأَصفر
سنة 1888 غادرا باريس: غوغان اتجه إِلى بريتانيا (منطقة تاريخية وثقافية في الشمال الغربي من فرنسا) لاكتشاف تلك المنطقة، بحثًا عن جذور للفلاحين هناك، وانتقل فان غوخ إِلى آرل (جنوبي فرنسا) يحقِّق حلْمه أَن يشكِّل تَـجَمُّعًا للرسامين يعيشون فيه ويرسمون معًا. لهذه الغاية استأْجر بيتًا أَصفر، دعا إِليه غوغان كي يأْتي ليعيش فيه فيرسما معًا. وافق غوغان لكنهما قبل التقائهما في الييت الأَصفر بقيا يتبادلان الرسائل واللوحات.
المرحلة التي سبقَت “البيت الأَصفر” كانت خصيبة لكلا الرسامَين. رسما كثيرًا ورسَّخا فنَّهما كلٌّ بأُسلوبه الخاص. وكان كلٌّ منهما يعتبر أَنه فريد في شخصه وعمله: غوغان يعتبر أَن مجتمعه لا يفهمه بل يَنبُذُه، وفان غوخ يعتبر أَنه رسول “الفن الجديد”.
غوغان: رسم ذاتي بإِهداءإِلى فان غوخ (1888)
العلاقة المتوتّرة: قطع أُذْنَه
وكان اللقاء: غوغان انتقل إِلى البيت الأَصفر في 23 تشرين الأَول/أُكتوبر 1888، وعاش فيه مع فان غوخ طيلة شهرين، يأْكلان معًا، يرسمان معًا، يتناقشان في موضوع الفن معًا. ومع اقتراب فصل الشتاء وانهمار المطر الشديد حائلًا دون الخروج إِلى الطبيعة، كانا يُمضيان كل الوقت معًا في البيت الأَصفر. وكانت لكل منهما شخصية خاصة قوية ومستقلَّة تسبِّب أَحيانًا تصادُمًا بينهما، حتى أَن فان غوخ وَسَمَ علاقتهما بـ”المتوترة جدًّا”. كانا يتناقشان في توتُّر وكل واحد يرسم على طريقته: فان غوخ يرسم بسُرعة من الطبيعة مباشرةً، بينما غوغان يفضِّل الرسم مما تكون اختزنَتْه ذاكرته، وفي إيقاع متمهِّل بطيْء. في نهاية كانون الأول/ديسمبر، عصف الجنون بفان غوخ في لحظات انهيار عصبي قويّ، فهاجم صديقه غوغان وهدَّده شاهرًا في وجهه سكينًا كبيرًا، ثم استدار وقَطَع جزءًا من أُذْنه، فهرب منه غوغان ناويًا أَن يقطع نهائيًا كلَّ علاقة به.
دوار الشمس
غادر غوغان منطقة آرل، لكن التراسُل عاد بينهما وبقي إِلى وفاة فان غوخ بعد 19 شهرًا، سافر غوغان بعدها إِلى تاهيتي في نيسان/أَبريل 1891. وهو – وإِن بقي أُسلوبه مغايرًا – إِلَّا أَن مراسلاته ونقاشاته مع فان غوخ تركت أَثرًا على لوحاته، ومن ذاك تأْثير لوحة “دوار الشمس”، زهرة فان غوخ المفضَّلة التي رافقت صداقتهما منذ مطالعها، وظل غوغان برسمها حتى بعد وفاة صديقه.