هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

29- الكتابة بالعامية ليست أقلَّ منها بالفصحى

23 تشرين الأول 2007 العدد 12354 السنة 36

ختمتُ المقال السابق (“قبس من لبنان” 28- الثلثاء الماضي) بأن أتناول في مقال اليوم موضوع الكتابة بالعامية، وكنتُ أعالج ما ورد في حلقة 5/10/2007 من برنامج الزميل تركي الدخيل “إضاءات” (قناة “العربية”)، وما قاله ضيفه (اليمني محمد الشرفي) عن سعيد عقل: “أرفض دعوته إلى العامية اللبنانية كمذهب ولست معه في مذهبه أو أيديولوجيته”.
طبعاً هذا لا يضير ذاك “المذهب” ولا تلك “الإيديولوجيا” في شيء، خصوصاً حين يأتي الرأيُ من مصدرٍ ذي اتجاه واحد وموقف مسبَق واحد وسلفية موروثة واحدة. ولهذا “الشرفي” وأمثاله هذه الواقعة التاريخية: سنة 1308 بدأ الشاعر الإيطالي العظيم دانتِه ألّيغييري يكتب رائعته المطوّلة “الكوميديا الإلهية”، وظلَّ يكتب فيها حتى سنة وفاته (1321). وهي اليوم معتبرة، بدون جدال، أبرز ملحمة شعرية في الأدب الإيطالي، وإحدى روائع الأدب العالمي على الإطلاق. ومن ميزات هذه الرائعة الخالدة أن شاعرها، وهو يكتبها، راح يواجه وابلاً شديداً من اللوم والعتب والتهجُّم والنقد القاسي لأنه كان يكتبها في لغة توسكانا المحكيّة، بينما إيطاليا، وسائر أوروبا القرن الرابع عشر، في مجد اللغة اللاتينية الفصحى، لغة الكنيسة ولغة الشعراء والأدباء والمؤلفات والخطب. وكان دانته يجيب في ثقة وهدوء: “أكتب في لغة الحياة. في لغة الناس. في لغة المستقبل. اللغة العامية المحكية هي لغة الغد. واللاتينية ستصبح لغة متحفية على رفوف المكتبات”. وبالفعل، لم يطُل الوقت، حتى كان أشرق عصر النهضة في كل أوروبا، وانفجرت اللغة اللاتينية الى لغات محلية فخرجت منها الفرنسية والإسبانية والإيطالية وسواها، وكان لافتاً وواضحاً ودامغاً أن اللغة الإيطالية (التي أصبحت المعتمدة رسمياً) كانت لغة توسكانا التي كتب بها دانته “الكوميديا الإلهية”. ومع ذلك، مع سقوط اللاتينية، لغة الكنيسة الرسمية، عن اللسان الإيطالي، لم تتأثر الكنيسة ولا تأثرت كتبها الروحية التي انتقلت الى الإيطالية لغة الحياة.
ويعرف المثقفون أن دانته في رائعته هذه متأثر مباشرة بالتراث الإسلامي (“الحديث” و”كتاب المعراج” وقصائد ابن عربي، (على ما يقوله الباحثان ميغيل بالاسيوس وإنريكو تشيرولي)، عدا تأثره الواضح برائعة أبي العلاء المعري “رسالة الغفران”.
أمام هذه الواقعة الدامغة الصافعة كلَّ متحجِّر متخشِّب، لا يعود مهمّاً من يعترض على العامية ومن يراشق ثمراتها الناطقة بحجارته الصمّاء. فـ”الكتابة” بها (وهي طبعاً غير “النطق” بها) لا تقلُّ تطريزاً أدبياً ونَحتاً لغوياً وصياغة أسلوبية صعبة ودقيقة عن الكتابة بالفصحى. وهل الفرنسية الأدبية المكتوبة (أو الإيطالية أو الإسبانية أو الروسية أو الإنكليزية) هي نفسها المحكية كلّ يوم؟ يقيناً لا، ولو ان محكية الناس اليومية باتت لغة المسرح والتلفزيون والسينما، لكنّ هذا لا ينطبق على الأدب المكتوب شعراً أو نثراً. فالأدب العالي بالمحكية، شعره والنثر، منحوت بالصعوبة التأليفية نفسها كما في الفصحى، والقاموس الأدبي المحكي غير التعابير اليومية على ألسنة الناس. من هنا ضرورة إسقاط الجدار العالي بين الفصحى المكتوبة والمحكية المكتوبة. إن الفصحى لغة العقل (بقواعدها وحساباتها) والمحكية لغة القلب. وهو ما حدس به دانته في رائعته فكتب في لغة القلب التي أصبحت لغة بلاده الفصحى اليوم. فلْيفهم كل عقل عربي أن فصحاه باقية في رفوف الكتب، وأن لغة الحياة هي المحكية أو العامية التي لن يوقف نَهرَهَا حاجز.
وما دام في هذه الأمة عقل عربي يصرُّ على أن يظل قابعاً في نعش الرفض الْمُسْبَق، وفي تابوت الحكْم الْمُسْبَق، وفي مقبرة التحجُّر الْمُسْبَق، ويرفض الخروج من قوقعة السلفيّات الْمُسْبَقَة، فهو إذن يرفض التطوُّر، وبالتالي يرفض قابلية دخول العصر، ولن يكون هادراً بالعطاء في نهر الحياة، بل سيبقى جامداً مهمَّشاً على ضفة النهر.