بوشكين: الشعر أَقوى من السُلطة (2 من 2)
– بوشكين يُلقي شعره في مناسبة عامة
في الحلقة الأُولى من هذه الثنائية عرضْتُ كيف عاد إلى النُور الشاعرُ الروسي أَلكسندر بوشكين (6 حزيران/يونيو 1799-10 شباط/فبراير 1837) بإِيعاز من جوزف ستالين (1878-1953) لغاية تخدم حُكْمَه، وكيف كان بوشكين منسيًّا قبلذاك مع أَنَّ لديه جميع مقومات الخلود. فما الذي حدا بسْتالين إِلى تكريمه إِلى هذا الحدّ؟
هذا ما أَكشفه في الجزء الثاني من هذه الثنائية.
النقطتان الباقيتان من العشْر
9. كان محور إِعجاب أُدباء عصره: فسنة 1880، خلال اجتماع لـ”جمعية محبّي الأُدب الروسي”، أَلقى دوستويفسكي خطاباً عن بوشكين جاء فيه: “لم نعرف شاعراً كونيَّ الرؤْية مثل بوشكين، لا في أُسلوبه وحسْب بل في عمقه وروحه وثقافته الواسعة”. وعند إِزاحة الستارة عن تمثال بوشكين في ساحة موسكو، أَلقى تورغنييف (صاحب رواية “الآباء والبنون”) خطبة جاء فيها: “شعر بوشكين هو جوهر الشعر ومرآة شعبنا”.
10. أَصبح رمزاً سوفياتيًّا خالداً. انتشرَت قراءَته في كامل الإتحاد السوفياتي، ولم تعُد أَيُّ قاعة صف في مدرسة أَو في مؤَسسة رسمية أَو مجلس خاص تخلو من صورة بوشكين بريشة فاسيلي تروبينين (1776-1857) أَو أُورِست كيبرنسكي (1782-1836). وسنة 1937 شهدَت روسيا أَكبر احتفالات بمئَوية وفاته، تلتها احتفالات مماثلة سنة 1949 في مرور 150 سنة على ولادته. وفي تينك المناسبتَين انتشرت في البلاد سلَع تجارية تحمل اسمه بين سجائر وطوابع وصابون وعطور، مع صورته وعبارة “نتذكَّر بوشكين”.
البزوغ بعد الغروب
تلك الاحتفالات الرسمية، أَو الحفلات الخاصة، وحتى خارج البلاد، كان وراءَها ستالين، الذي سحبه من نسيان القرن التاسع عشر، بعدما كانت شهرته مقتصرة على النُخبة من المثقفين، بل لم يكن على لائحة الإِنتليجنسيا من الثوار لاعتبارهم إِيّاه “بعيداً عن حاجات الشعب وهمومه”. وكان ستالين معجَباً جدًّا بالأَدب الروسي الكلاسيكي، إِلى إِعجابه طبعاً بالأَديب الثائر نيقولاي تشيرنيشيفسكي (1828-1889). وبتأْثير من ستالين راح المهاجرون الروس، منذ منتصف القرن العشرين، يهتمُّون حثيثاً بمؤَلفات بوشكين إِنما، ولو عن بُعد، تحت نظَر الحكْم المركزي في روسيا السوفياتية. من هنا متابعةُ ستالين معظم الحلقات الروسية المهاجرة في الخارج، لأَنّ احتفال المهاجرين الروس ببوشكين في الخارج قد يتحوّل سلاحاً سياسيّاً خطيراً ضدّ السلطة المركزية، لذا شدَّد ستالين على مراقبتهم كي لا يفلتوا من النظام.
احتفاء غير مسبوق
منذ 1922 (تاريخ وصول ستالين إلى السُلطة) كان بوشكين يسطع في الأَوساط الأَدبية والشعبية، ويُقام له احتفال تذكاري سنوي في ذكرى وفاته (10 شباط/فبراير 1937)، تُطلَق عليه أَلقاب تبجيلية: “الربيع الروسي”، “الصباح الروسي”، “آدم الروسي”، وسواها، مع مقارنته بالعظماء الخالدين مثل دانته وبترارك وشكسبير وشيلر وغوته.
وكان يعمل على تحضير ذاك الاحتفال السنوي التبجيلي التعظيمي غير المسبوق في البلاد، مجموعُ أَكاديميين وكُتَّاب وملحِّنين ومؤَلفين موسيقيين وسياسيين وأَعلام مجتمع ودور نشر وشركات سينمائية ومسارح ومعامل ومصانع وحتى مزارع في الأَرياف، كي يشعر كل فرد من الشعب الروسي كم بوشكين عظيم وخالد و… مكرَّس حتى التعبُّد.
وفي تلك الاحتفالات، أُزيحت الستارة عن تماثيل بوشكين في لينينغراد وكييف ومينْسْك وتْبيليسي ويريفان وسواها من المدن الكبرى. وسُمِّيَت باسمه شوارع وساحات عامة ومدارس وحدائق عامة، وأخذ الرسامون يضعون لوحات كبيرة جدًّا له، والمؤَلفون الموسيقيون يضعون مقطوعات موسيقية على اسمه، ويلحِّنون نُصوصاً تُـمجِّده، والمسرحيون في موسكو ولينينغراد يقدِّمون مشاهد مسرحية مقتبَسَة من أَعماله. وصدرَت طوابع تحمل عبارة “مئوية وفاة أَلكسندر بوشكين”، وأَخذَت مكبرات الصوت تذيع اسمه في الساحات والشوارع التي تتزين بصوره الكبيرة المعلَّقة عالياً، وصدرَت ملصقات كبرى وبطاقات بريدية باسمه، وأُقيمت معارض عنه في كل مدرسة ومصنع ومعمل في جميع البلاد.
14 مليون نسخة
تلك المنشورات في الذكرى المئوية بلغَت 14 مليون نسخة في جميع اللغات واللهجات على مدى الاتحاد السوفياتي. وتشكَّلَت نوادٍ على اسمه وجمعيات وحلقات أَدبية. وكما كانت العادة أَن تَغرق البلاد بأَيقونات ومنمنمات وتماثيل صغيرة تحمل صورة القديس نيقولاوس، هكذا كانت البلاد سنوياً تغرق بـمئات آلاف التماثيل الصغيرة والنصفية والسلَع التي تحمل اسم بوشكين وصورته ومقاطع من سيرته.
في 10 شباط/فبراير 1937، يوم ذكراه بالضبط، انعقد احتفال في مسرح البولشوي – موسكو للاحتفاء بذكرى وفاته، حضرهُ زعماء الحزب الشيوعي وعلى رأْسهم ستالين. تَـمَّ نقل الاحتفال من الإذاعة مباشرةً على الهواء، وأَلقى أمين التربية في الحزب رئيسُ لجنة بوشكين أندريه بوبنوف خطاباً جاء فيه: “بوشكين لنا… وحدها البلاد ذات الثقافة الاشتراكية تعرف كيف تحضُن عبقريَّها الخالد. وفي بلادنا باتت مؤَلفات بوشكين كنوزًا في متناول الشعب”.
هكذا انتهى ذاك الاحتفال، وبوشكين في قمّة تكرُّسه خالداً، حتى قال الفيلسوف أَنطونيو غرامشي “إِنّ تكريس بوشكين وحَّد قوى الشعب وجمع البلاد المتعددة الإِثنيات في مدى ثقافي مشترك، حتى يمكن اعتبار بوشكين أَكبر قوة موحِّدة في البلاد”.
جمالُ زوجته سبَبُ وفاته
كانت ناتاليا زوجة بوشكين ساحرةَ الجمال، تلفت إِليها الرجال أَينما حلَّت، وكان غالباً يصطحبها معه إِلى الحفلات العامة. وذاتَ حفلة، هام بها الضابط الفرنسي جورج دانتيس وراح يتقرَّب منها تكراراً حتى ذاعت قصتُهما في المدينة. ولإِبعاد الشُبهة تزوَّج الضابطُ من شقيقتها لكنه ظلّ يتقرَّب من ناتاليا. بدأَ بوشكين يتلقَّى رسائل مجهولة الـمُرسِل تدّعي العلاقة بين زوجته والضابط، فأَرسل الشاعر رسالة قاسية إِلى والد الضابط بالتبنّي يطلُب منه ردع ابنه الضابط عن التحرُّش بزوجته. وفي 25 كانون الثاني/يناير 1837 وصلَت رسالة إِلى بوشكين تؤَكِّد له حصول علاقة جنسية بين زوجته والضابط، فدعا بوشكين ذاك الضابط إِلى المبارزة بالمسدَّس. ولأَنّ الضابط متمرسٌ بالقتال والسلاح، حاول ردعَ الشاعر عن المبارزة فلم يرتدع. وتعيَّن موعدُ المبارزة مساء 8 شباط/فبراير في مكان قريب من بيترسبورغ. لكنَّ الضابط كان أَسرع من الشاعر بإِطلاق النار فأَصاب الشاعرَ برصاصةٍ في ساقه فهوى وأَفلَت منه مسدسه. عندها أَكملَ عليه الضابط برصاصةٍ أُخرى في بطنه فراح ينزف، وحمله الحضور إِلى بيته فلم يُسعفْه أَيُّ علاج، بل ظلَّ ينزف حتى توفي بعد يومين في 10 شباط/فبراير 1837 وهو في عزِّ ربيعه الثامن والثلاثين.