هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

285. فرجينيا وُوْلْفْ
الثلثاء 25/07/2023

فرجينيا وُولْفْ من اليأْس المضطرِب إلى الانتحار

25-07-2023 | 20:11 المصدر: النهار العربي
هنري زغيب
 فرجينيا وُوْلْفْ: حياة يومية مضطربة

فرجينيا وُوْلْفْ: حياة يومية مضطربة

 

صديقٌ يتابع مقالاتي في “النهار العربي” سأَلَني لِماذا لا أَلتفتُ إِلى مواضيعَ من الإِرث العربي المعاصر أَو الحديث، عوضَ الانصراف إِلى التُراث الأَجنبي… جوابي له ولسواه بسيطٌ وواضحٌ: موقعُ “النهار العربي” يَنشر في رحابة غنية ممتازة شبهَ يوميةٍ مواضيعَ ثقافيةً منوَّعة (حديثة أَو معاصرة أَو تراثية وكلاسيكية) من كل العالَـم العربي. من هنا أُركِّز في معظم كتاباتي على مواضيعَ ثقافيةٍ أَجنبية قد لا يجدُها قارئُ “النهار العربي” على صفحاته.. لذا اخترتُ أَن أُقدِّم إِليه جرعات جديدة في مواضيعَ من الآداب والفنون الغربية تُثْري معرفته. وهو هذا دَوري ككاتبٍ أَن أُقدِّم لقرَّائي جديدًا يضيفونه إِلى مداركهم المعرفية.

ها موضوعي اليوم يفتح صفحة كانت مغْلَقة، حول الكاتبة الإِنكليزية فرجينيا وُولْفْ (1882-1941)، بعد اكتشاف نسخة الطبعة الأُولى من روايتها الأُولى “الرحلة البحرية” (1915) وهي كانت منسيَّةً على أَحد رفوف مكتبة جامعة سيدني أُستراليا. فماذا عنها؟

الطبعة الإِنكليزية الأُولى (1915)

اكتشاف “الكنز”

أَهمية هذا الاكتشاف مزدوجة: إِيجادُ هذه النسخة من الطبعة الأُولى ورَقْمَنَتُها (تحويلها طبعةً رقميةً إِلكترونية)، وكون المؤَلفة تاركةً بخطِّها في هذه النسخة ملاحظاتٍ متفرقةً على هامش بعض الصفحات.

المكان: “مكتبة فيشر لمجموعات الكتب النادرة” لدى جامعة سيدني (نيو ساوث ويلز).

المناسبة: ملاحظات وتعديلات وَضَعَتْها فرجينيا وُولْفْ على الطبعة الإِنكليزية الأُولى تحضيرًا للطبعة الأَميركية التي صدرت سنة 1920.

تلك النسخة من الطبعة الأُولى ضائعة في جناح “الكتُب العلْمية النادرة”. ويبدو أَن المسؤول عن التصنيف أَخطأَ في وضع رواية وُولْفْ مع مجموعة كتب علْمية اقْتَنَتْها جامعة سيدني سنة 1976، فلم يتنبه إِليها أَحد هناك، حتى اكتشَفَها مصادفةً سنة 2021 سايمون كوبر المسؤُول الجديد عن تصنيف الأَجنحة في “مكتبة الكتب النادرة”. وكان من الثقافة بحيث أَدرك فورًا أَهمية هذا “الكنْز” الذي عَثَرَ عليه، فَعَمَدَ إِلى رَقْمَنَة هذه النسخة النادرة الوحيدة، لوضْعها في متناوَل جميع المهتمّين بتراث فرجينيا وُولْفْ، وبات يمكنهم نسخها أَو طباعتها ودراستها والاحتفاظ بها مع ما عليها من ملاحظات المؤَلفة.

خطُّها على الطبعة الـمُعَدَّلَة

الاضطراب النفسي

موضوع الرواية عن راشيل فينراس التي تبحر في سفينة والدها إِلى أَميركا الجنوبية.  وتعمَّدَت وُولْفْ السخرية من أَنماط الحياة في المرحلة الإِدواردية (هي في المملكة المتحدة فترة حُكْم الملك إِدوارد السابع بين 1901 و1910 ويمدُّها البعض إِلى بداية الحرب العالمية الأُولى). وبالفعل، بدأَت فرجينيا كتابة روايتها سنة 1910 وأَنجزَتْها سنة 1912 لكنها بقيَت مخطوطة بضع سنوات لأَن الكاتبة عند إِنجازها كانت تمرُّ في فترة انهيار عصبي وحالة نفسية مضطربة حاولت خلالها الانتحار يأْسًا. راحت تعدِّل في النص برغم اضطرابها فلم تصدُر الرواية إِلَّا بعد ثلاث سنوات: 1915 لدى منشورات داكْوُورث – لندن (وهي لأَخيها غير الشقيق جيرالد داكْوُورث)، وفيها بذور ما سيكون عليه أُسلوب الكاتبة. ومنذ تلك السنة بالذات بدأَت تكتب يومياتها وتبدو فيها حالتها النفسية الـمَرَضية المنهارة.

كان عنوانُ الرواية الأَولُ: ميليمْبْروزيا (طعام الآلهة الإِغريق في الميثولوجيا اليونانية). وكانت فيها جرأَة إِقدام فرجينيا، منذ مطلع حياتها الكتابية، على طرح مواضيع محظورة كالاستعمار وحق المرأة في الاقتراع والموت والاستيهامات والهواجس الجنسية.

لماذا التعديلات؟

استعدادًا لصدور الطبعة الأَميركية من روايتها في نيويورك سنة 1920 في منشورات جورج هنري دوران، أَجرت فرجينيا تعديلات على نسختها الإِنكليزية الأُولى، كتبَت بعضها بخطها، والبعض الآخر طَبَعَتْهُ على آلتها الكاتبة وأَلْصَقَتْه على الصفحات حيث شاءَت التعديل.

لماذا التعديل قبل دفع روايتها تلك إِلى الطبعة الأَميركية؟

أَجرت تعديلاتها بعد إِبلالها من نوبات الانهيار العصبي، وبعد انتعاش مسيرتها الأَدبية إِثْر صُدور روايتها الثانية “ليلًا ونهارًا” سنة 1919. ويرى النقاد أَنها بذلك أَرادت وضع مسافة بين حالتها النفسية المريضة وحالة راشيل فينراس بطلة “الرحلة البحرية”، فكلتاهما عانت من تسلُّط الأَب، وفقدان الأم باكرًا، وحرمانها من تَلَقِّي التعلُّم في المدرسة عوَضَ تَلَقِّيه في البيت. لذلك ارتأَت فرجينيا أَن تُعيد النظر في الطبعة الأَميركية كي تُريح ضميرها مما جاء من إِجحاف قاسٍ في الطبعة الإِنكليزية.

غلاف الطبعة الأميركية

ما هي التعديلات؟

في الفصل 16 من الطبعة الأُولى خفَّفَت من قسوة الحوار بين راشيل وحبيبها تيرنِس هِيْوِيْت، وكتبَت مكانَهُ مقاطع جديدة طبعتها على الآلة الكاتبة وأَلصَقَتْها في مكانها من الفصل، ما حَرَفَ النص قليلًا عن أَن يكون مسحوبًا من سيرة فرجينيا الذاتية الخاصة، تخلَّلَتْها لحظاتٌ هي ذاتها لم تكُن تفهمها وإِذا هي، في منطق العالم النفساني سيغموند فرويد، “موجودة في لاوعي الكاتبة قبل وضع روايتها وأَثناء كتابتها إِياها”. وتعديلات الطبعة الأَميركية تشير، “فرويديًّا”، إِلى أَنها شُفِيَت مما كان يسكنها وقتَ كتابتها الطبعة الإِنكليزية حين كانت محبَطة في مرحلة سوداء.

التعديلات الأُخرى ظهرَت في الفصل 25 حين تحاول راشيل أَن تستشرف مستقبلها مع تيرنس فتقع في الخيبة، وتبلُغ اليأْس فالانتحار. وضرَبَت فرجينيا على مقاطع كاملة طالبةً حذفَها من الطبعة الإِنكليزية. وهنا يتدخَّل النقَّاد مجدَّدًا ليَرَوا في ذلك الحذف تَعَمُّدَها الغموض في مواقف راشيل حتى يفسِّرها القراء كما يشعرون لا كما تريد الكاتبة أَن تُظهر على لسان راشيل. وهكذا جاءت باكورة رواياتها مخترقَةً المأْلوف والمتَّبع الموروث من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ما يُظهر فرجينيا وُولْفْ في أُسلوبها الجديد المبتَكَر الذي به اشتهرت إِحدى أشهر روائيات القرن العشرين، لتكون محور التجديد في الرواية الإِنكليزية الحديثة.

بلاطة تذكارية على بيتها

لا بُدَّ من الانتحار

غير أَن حياتها الخاصة لم تبتعد نهائيًا عن سيرة شخصياتها، ففرجينيا وقعَت في حالة يأْس قاتلة، بلغَت ذروتها في الأَسابيع الأَخيرة من حياتها حين حاولت الانتحار مرارًا إِلى أَن جاء 28 آذار/مارس 1941 يومَ أَثقلت جسدها بقطَعٍ ثقيلة من الحديد وقفزَت إِلى نهر “أُوز” قرب منزلها في ساسيكس، تاركةً رسالةَ اعتذارٍ إِلى زوجها ليونار وُولْفْ، معترفةً له أَنه لم يكن يومًا يجذُبها ولا أَحبَّتْهُ. ولم يجد الغطَّاسون جثمانها الغريق إِلَّا بعد ثلاثة أَسابيع في 18 نيسان/أَبريل 1941. وكانت في التاسعة والخمسين من حياتها المضطربة.