بعد 720 سنة: هذه “الموناليزا” الغامضة… ما سرُّها ؟؟ (2 من 2)
– الأَميرتان الإِيطاليتان ناتاليا (إِلى اليسار) وإِيرينا سْتْروتزي نسيبَتان من سلالة “موناليزا جوكوندا”
من قَدَر الأَعمال الخالدة أَن تتجاوزَ حدودَ مكانها وفضاءَ ولادتها فتُواصلُ مسيرتها في الزمان خالدةً تُثير تساؤُلات دائمة كل فترة، فلا يكونُ جوابٌ نهائيٌّ ولا يكون للأَبحاث عنها انتهاء.
بعد الجزء الأَول من هذه الثُنائية، حول ما يحصل للوحة “الموناليزا” (1503) بعد 720 سنة على رسمها بريشة المبدع الخالد ليوناردو دافنتشي (1452-1519)، هنا الجزء الآخَر من هذه الثُنائية.
الوقوف صفًا طويلًا لزيارة “الجوكوندا”
حين رسمَ ليوناردو لوحته هذه، لم يكن يحلم أَن تتَّخذ لوحته هذه الشهرة العالَمية، وأَن تحتل غرفة مستقلَّة خاصة بها لدى أَشهر متحف في فرنسا، وأن تكون “عروس اللوفر” الدائمة الخالدة بعد خمسة قرون من رسمه إِياها، وأَن يقف الزوار في صف طويل طويل طويل كي يبلغوا تلك الغرفة ويتأَملوا هذه اللوحة “شخصيًّا” على بُعد أَمتار قليلة منها.
الزوار العاديون، غير العارفين بتقْنيات الرسم، يجدون فيها، تبسيطًا، رسم امرأَة عادية. وفي القرن التاسع عشر كان ليوناردو معتَبَرًا رسامًا كبيرًا وأَيضًا مخترعًا كبيرًا. ولذاك القرن التاسع عشر أَثر كبير في اندلاع شهرة اللوحة بعدما راح كُتَّابٌ يُظهرون اهتمامًا بها ويكتبُون عنها باندهاش.
أَغلى بوليصة تأْمين
هذه الشُهرة المتنامية عبر العصور تبرر ثمن البوليصة المرتفع للتأْمين على اللوحة التي سنة 1962 بلغ تقدير ثمنها 100 مليون دولار، وسنة 2018 بلغ 650 مليون دولار، واليوم قد يكون لامس المليار، وقيمتها هي من التنظير البحت لأَن الحكومة الفرنسية تمنع بيعها، وتاليًا بات ثمنُها لا يقَدَّر بأَيِّ مبلغ. وهذا ما يفسِّر أَن تكون أَكثر لوحة في العالَم استدرارًا كتاباتٍ وكتبًا ومقالاتٍ وأَبحاثًا وأَفلامًا قصيرة ووثائقية لم تتوقف حتى اليوم.
أَحد الكتُب عن “الموناليزا”
تنظيرات حول سرِّها
ومع أَن في اللوفر روائع خالدة مثل “الليلة المرَصَّعة بالنجوم” (1889) لفان غوخ (1853-1890)، و”ولادة فينوس” (1486) لبوتيتشيلّي (1445-1510)، وأَعمال أُخرى من ميكالانجلو (1475- 1564) ورافايــيلُّو (1483-1520)، فإِنَّ ما يحيط بلوحة “الموناليزا” من رموز وطقوس وتقديرات وتخمينات وتنظيرات وتكهنات يجعلها الأَكثر خلودًا، ويكرِّسُها محورًا رئيسًا في تاريخ الفن العالَمي حتى اليوم. وبين تلك التنظيرات رأْيُ العالِم النفساني الشهير سيغمُند فرويد أَنَّ نصف الابتسامة على شفتَي ليزا جوكوندا أَراد بها ليوناردو استذكار وجه أُمه الغائبة. ويذهب مؤَرخو الفن وبعض النقَّاد إِلى أَن في خلفية وجه الموناليزا وجه ليوناردو ذاته في تشكيل خاص يخفي ملامح الرجولة من ملامح الأُنوثة في الوجه. ويباعد آخرون فيرون أَن ليوناردو رسم وجهًا لامرأَةٍ غير موجود بل هي من خياله تصوَّرَها بهذه الملامح.
نسخة “لاجوكوندا” في متحف برادو (مدريد)
نسخة في مصرف سويسريّ
عن الكتب النقدية الموثوقة أَن ليوناردو وضع أَكثر من نسخة لِلَوحته. إِحدى تلك النُسَخ وُجدت في سويسرا، ورجَّحت “المؤَسسة السويسرية الفدرالية للتكنولوجيا” في زوريخ أَن تعود اللوحة إِلى زمن ليوناردو، ما يعني أَنها له وليست منسوخةً بعده. واللافت أَن هذه النسخة بقيَت محفوظة في مصرف سويسري طيلة 40 سنة قبل عرضها للجمهور سنة 2012. وفي هذه السنة ذاتها (2012) ظهرَت نسخة أُخرى للَّوحة في متحف برادو (مدريد) بريشة أَحد تلامذة ليوناردو، يهرع الزوار إِلى مشاهدتها ليتبيَّنوا كيف كانت اللوحة الأَصلية في زمانها وكيف تَمَّ نسْخُها بأَمانة.
حتى مطلع القرن العشرين، ظلت لوحة “الموناليزا” شبه مجهولة، إِلى أَن تغيَّر قدَرُها سنة 1911 يوم سُرِقَت من اللوفر، وذاعت السرقة فانتشر خبَر اللوحة. لذا، بعد تلك الحادثة المؤْسفة، أَخذ الزوار يلاحظون التدابير الأَمنية الصارمة من حرّاس حازمين وكاميرات كثيرة جاهزة موزَّعة في كل ناحية من الغرفة التي تحتضن للوحة.
“لاجوكوندا” محفوظة داخل خزانة زجاجية لا يخترقها الرصاص
بيكاسو “الحرامي”
وما جعل سرقة 1911 فضائحية أَكثر، أَنِ اتُهِمَ بيكاسو (1881-1973) بالضلوع في عملية السرقة وتَـمَّ توقيفه. ذلك أنْ حين جاء بيكاسو إِلى باريس سنة 1900 تصادق مع الشاعر غِيُّوم أَبولينير (1889-1918) وكان للشاعر سكرتير يدعى جوزف بـيـيـريه. ولأَن هذا الأَخير كان يعرف تعلُّق بيكاسو بالتماثيل الإِيبيرية في القرنين الثالث والرابع، وكان عدد منها معروضًا في اللوفر، فكَّر أَن “يسرق” من المتحف اثنين بينها. يومها كانت السرقة أَقلَّ صعوبةً لأَن التدابير الأَمنية وإِجراءات الحراسة لم تكن بالحزم الذي انتهت إِليه لاحقًا. وبالفعل استوحى بيكاسو من وجه أَحد ذينك التمثالَين ما رسمه سنة 1907 في وحته الكبيرة الرائعة “صبايا أَفينيون” (244x234 سنتم). وسنة 1911 قرر بـيـيـريه أَن يسرق أَعمالًا أُخرى من “اللوفر” حتى إِذا علِم بذلك سيدُهُ أَبولينير طرَدَهُ من العمل لديه. وشاءت المصادفة أَنَّ سرقة “الموناليزا” جرت في ذاك اليوم بالذات.
تبرئة بيكاسو من السرقة
حين انتشر خبر السرقة خاف بيكاسو انكشافَ أَعمال لديه مسروقة من “اللوفر”. وكان أَنَّ بـيـيـريه صرَّح لجريدة “جورنال باريس” عن مكان وجود تلك الأَعمال ليثأَر من عملية طرده، أَو طمعًا ببعض المال. فاضطر أَبولينير أَن يعطي رئيس التحرير جميع القطع لديه كي يغطّي على عملية السرقة التي قام بها سكرتيره المطرود. لكنَّ رجال الشرطة استَجْوَبُوه وضبطوا المسروقات وأَوقفوا أَبولينير وبيكاسو معًا. وإِذ لم يجدوا لديهما “الموناليزا” المسروقة، أَطلقوا سراحهما بعد أَربعة أَيام.
وهكذا، كما كتبْتُ في مطلع هذا المقال: من قَدَر الأَعمال الخالدة أَن تتجاوزَ حدودَ مكانها وفضاءَ ولادتها، فتُواصلُ مسيرتها في الزمان خالدةً تُثير تساؤُلات دائمة كل فترة، فلا يكونُ جوابٌ نهائيٌّ ولا يكون للأَبحاث عنها انتهاء.