في الذكرى 110 لولادته: كامو في بُؤْس مُقَنَّع (3 من 3)
أَلبر وماريا… الحب الكبير
بين شعلة الحب واشتعال المقاومة، حاول أَلبر كامو أَن يغطِّي على ما كان يسكن كيانه من بؤْس، لعلَّ الحب يُنْقذه والمقاومة تُبعده عن الآنيات. غير أنه ظل في صمته يهدر بما لم يفتح له أفقًا رحيبًا للسعادة.
ماريا كازاريس
في حزيران 1944 قدَّم مسرحيته “سوء التفاهم” فمنعتْها سلطة الاحتلال وأَرغمَتْه على مغادرة باريس. وخلال التمارين على تلك المسرحية، ولدَت قصة حبه الكبير مع بطلتها الممثلة ماريا كازاريس في دور ماريا. ومع أَنه عرف مغامرات نسائية مع غيرها، وعرفت هي مغامرات عاطفية مع سواه، عادا فالْتقيا من جديد، وسافرا معًا سنة 1958 إِلى اليونان برفقة الناشر ميشال غاليمار وزوجته جانين. وكانت ماريا بعدها بطلة مسرحيته “كاليغولا” مع جيرار فيليب.
في قلب المقاومة
كان له دور كبير في المقاومة الفرنسية ضد النازية. وفي “رسائل إلى صديق أَلْماني” التي طُبِعَت ووُزِّعت سريًّا، يظهر دور كامو في المقاومة. فبعد انغماسه في فكرة الإِنسان العبثي كان في “أُسطورة سيزيف” يرفض فكرة الانتحار، ويبشِّر بثلاثة مواقف: الغواية، الكوميديا والاقتحام. وفي تلك “الرسائل” تركيز على القيَم الثقافية المشتركة بين الفرنسيين والأَلمان. وشدد على العدالة والتضامن، كما كان يكرر ذلك في افتتاحية جريدة “كومبا”. وكان يرفض فكرة الإِعدام، فكتب في إِحدى يومياته من “الدفاتر”: “ليس مَن هو مذنبٌ في المطلق، ولذا لا يمكن إِعدامُه في المطلق”. ومن هنا عبارته كذلك: “وحدها العدالة تنقذ الجزائر من الشعور بالحقد”. وعند انفجار قنبلة هيروشيما، صدمه القلق من إِحداث ما سماه “انتحار الإِنسانية الجَمَاعي”. ومع انتهاء الحرب، راح في افتتاحياته يبشّر بـــ”الثورة بعد المقاومة”، مفسرًا ذلك بخيار “إِلغاء السياسة واستبدالها بالأَخلاق… وهذا ما نسميه الثورة”.
تبشيره هكذا بــ”الأَخلاق” أَفسد عليه التمتُّع بنجاح روايته “الطاعون” سنة 1947. ففيما كان فترتئذٍ بلغ شهرة عالَمية، قرأَ الكثيرون هذه الرواية على ضوء الاحتلال الأَلْـماني، فيما آخرون وجدوا فيها أَخلاق مبادئ “الصليب الأَحمر”، معتبرين أن كامو يفضل الاحتراز على الشفاء. صحيح أن الوباء انحسر في نهاية الرواية، لكنه ظل يشُكُّ في إِمكان عودته. من هنا دعا إِلى الاحتراز.
يلقي إِحدى محاضراته
أسفار… أَسفار
حاول دومًا أن يهرب من بؤْسه المقنَّع. كان ضئيل المورد في شبابه، ثم وقعت الحرب، ووقع في اعتلال متواصل وكانت تضغط عليه همومه العائلية. حاول النسيان. سافر قبل 1939 إِلى مايوركا وإِيطاليا التي أحب فيها مناظرها التوسكانية ورساميها الفطريين. ونوى سنة 1939 أَن يسافر إلى اليونان فلم يتحقق له ذلك إِلَّا سنة 1955. ومن سفره إلى هولندا استوحى الإِطار الجهنمي لرواية “السقوط”. ومن سفرتَين إِلى أَميركا الشمالية سنة 1946 (مدعوًّا لإِلقاء محاضرات) والجنوبية سنة 1949، كان يعود بدون راحة هانئة. ظل البؤْس يطارده في خلواته الانفرادية، خصوصًا بعد سفرته الأَميركية التي عاد منها والسلُّ ضالع فيه بشراسة.
يرتاح في الطبيعة من همومه
الابتعاد عن المسرح
لكنه حاول المجالدة. بعد رجوعه من أَميركا الجنوبية بدأَ يكتب مسرحيته “العادلون” ممجدًا أَفعال الإِرهابيين سنة 1905، المضحين ببراءتهم وحياتهم. وحالَ وضعُه الصحي دون متابعته التمارين على المسرحية وحتى عن حضور عرضها الأَول، فقرر الابتعاد عن المسرح. انصرف إِلى الاقتباسات تواقًا إِلى “كتابة مأْساة حديثة” (من محاضرة له في أَثينا سنة 1955). لكنه فشل في ذلك فالتفَّ من جديد على ذاته مؤْمنًا بأَنه ليس “فيلسوف العبثية” التي كانت رائجة في خمسينات القرن الماضي، كما مع بيكيت وإيونسكو. أَراد أَن يبقى وفيًّا لمبادئ النص البهيّ والأُسلوب السلس والجمال المطلق والتواصُل الـمُشرق مع الجمهور.
الطاعون “المنقذ”
وسط ذاك الجو المكفهر، ابتسمت له عائدات روايته “الطاعون”، فلم يعد يتنقَّل من منزل بالإِيجار إِلى آخر، بل اشترى في كانون الأَول/ديسمبر 1950 منزلًا سكن فيه مع زوجته فرانسين وولديه التوأَمين كاترين وجان اللذين كانا ولدا سنة 1945. كان ذاك المنزل في الدائرة السادسة من باريس، غير بعيد عن مكاتب منشورات غاليمار التي كان مسؤُولًا أَدبيًا فيها.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1954 بدأَت أَحداث الجزائر، وكان يتوقَّعها منذ 1945 في افتتاحيته جريدة “كومبا”. وظل حتى وفاته يرفض فكرة أَنها “أَحداث وطنية”، لذا كان يرى إِرهابًا في كلا المعسكرين. وانتعش الأَمل لدى الجزائريين بعد مظاهرات 13 أَيار/مايو 1958 وعودة الجنرال ديغول، فكتب إِلى الرئيس يسترحمه المظلومين في بلاده الأُم. وظلت بلاده في وجدانه، وحين نال في تشرين الأَول/أُكتوبر 1957 جائزة نوبل للأَدب، كان يوجعه ما يجري في الجزائر. وكان يفضِّل لو ذهبَت الجائزة إِلى أَندريه مالرو.
وفي خطاب تسلمه الجائزة في ستوكهولم، بدا باسمًا، أَنيق السموكنغ، مع زوجته فرانسين، كأَنهما زوجان سعيدان. وفي مقابلة له مع صحافي جزائري أَجاب: “أُؤْمن بالعدالة لكنني أُدافع عن أُمي قبل العدالة”. لذا اغتَبَطَ بقرار الجنرال ديغول في 16 أَيلول/سبتمبر 1959 أَن يعطي الجزائر حق تقرير مصيرها.
الحادث الذي أَودى بحياته
القدر القاسي
كان يَنوي، في عمق ذاته، استعادة ذاته من البؤس المقنّع، لكنَّ القدَر لم يُتِح ذلك: في 4 كانون الثاني/يناير1960 كان عائدًا إِلى باريس مع ميشال غاليمار وزوجته جانين وابنتهما ميشالَّا، وكان ميشال يقود سيارته بسرعة جنونية، فانزلقَت عند نقطة مبلَّلَةٍ بمياه المطر. قُتِلَ كامو فورًا، ومات ميشال بعد خمسة أَيام.
كان كامو على موعد مع حبيبته ماريا كازاريس، لكنه لم يصل إِلى باريس ليلقاها فوافَت هي جثمانه إِلى بلدية لورماران حيث كان على سرير حديدي، مغطًّى بشَرشَف أَبيض.