هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

280. أَلْبر كامو والبُؤس المقنَّع (2)
الجمعة 07/07/2023

في الذكرى 110 لولادته: كامو في بُؤْس مُقَنَّع (2 من 3)

07-07-2023 | 16:53 المصدر: بيروت- النهار العربي
هنري زغيب
البُؤْسُ الصامت خلْف هذه الابتسامة

البُؤْسُ الصامت خلْف هذه الابتسامة

كثيرون بحثوا في أَدب كامو عن العوامل التي جعلت البُؤْس المالح لا يفارقه في سيرته ومسيرته. وهو حاول، ما أمكنه، إِخفاء تلك العوامل، لكنها بقيَتْ بيِّنَةً في كتاباته وأَحيانًا في سُلُوكه مع الآخرين.

كيف تعامل كامو مع هذه الحالة؟

هذا ما أَعرضه في الحلقة الثانية من هذه الثلاثية.

 

المسرح: تعويض أَمْ إِنقاذ؟

كان حبُّه المسرحَ دومًا يعوِّض له ما فقدَه من حنانٍ وما أَغرقَه في البؤْس والتشرُّد الفكري، فأَسس مع أَصدقاء له فرقة “مسرح العمل” سنة 1935، واقتبس للخشبة رواية أَندريه مالرو (1901-1976) الصادرة عامئذٍ “زمن الكُره”. ثم اقتبسَ لتلك الخشبة ذاتها قصة أَندريه جيد “عودة الابن الضال” (1907) وقدَّمها ممثلًا ومخرجًا، كما اقتبس بعدها للمسرح رواية “الإِخْوَة كارامازوف” (1880) للروائي الروسي دوستويفسكي (1821-1881).

الحماسة لِـ”مسرح العمل” دفعت الناشر إِدمون شارلو سنة 1936 إِلى إِصدار “ثورة في أَستوريا” كتابًا، وهي مسرحية جماعية وضعها أَلبر كامو ورفاقه في الفرقة. وكان رئيس بلدية الجزائر العاصمة منعَ عرضها لأَنها تحرِّض على الثورة.

أَثناء حديث صحافي

الدفاتر الحميمة    

منذ شبابه الأَول، عكَف كامو على تدوين مذكِّراته شبه اليومية في “دفاتر” ظلَّ يتابعها يوميًّا طوال ربع قرن، منذ 1935 حتى وفاته، ولاحقًا صدرت سنة 1962 لدى منشورات غاليمار (كان كامو مسؤُولًا لديها عن القسم الأَدبي). وفي الـ”دفاتر” سرد دقيق لمسيرته الأَدبية وما فيها من نجاح، وسيرته وما فيها من بؤْس متتالٍ .

هذا البؤس رافقَه في سيرته الشخصية ومسيرته الأَدبية، غارقًا في جوٍّ من العبث المالح. وهو ما بدا من “الثلاثية العبثية” التي  وضعها: مسرحية “كاليغولا” (1938)، ورواية “الغريب” (1942)، وبحثه الفلسفي “أُسطورة سيزيف” (1942)، فتكرَّس منذ مطالعه الأَدبية كاتبًا مسرحيًّا وروائيًّا وفيلسوفًا. غير أَن ذلك جلب له الكثير من النقد: فالمسرحيون قاطعوه، والفلاسفة هاجموه وأَحجموا عنه، والروائيون ناقشوا بِحِدَّةٍ أُسلوبه الروائي: فـ”الغريب” و”السقوط” (1956) سردان أَكثر مما هما نصَّان روائيَّان، و”الطاعون” (1947) سردٌ شبه تاريخي. أَما مخطوطة “الإِنسان الأَول” (1994) الصادرة 34 سنة بعد وفاته، فوجد فيها النقَّاد سيرةً ذاتية أَكثر من نص ذي حبكة روائية. وأَما مسرحياته فيجد فيها النقاد التفاتة حنينية إِلى الماضي من دون أَيِّ رؤْية طليعية. ويرى بعض الفلاسفة المنظِّرين أَن فلسفته، المستقاة في معظمها من آثار سواه، لا تُقدِّم إِضافةً إلى تاريخ الفكر والفلسفة. وهو ذاته كان واعيًا ذلك، بدليل تدوينه سنة 1945 في إِحدى صفحات “الدفاتر” هذه الخاطرة: “لِماذا أَنا فنانٌ ولست فيلسُوفًا؟ لأَني أَفكِّر وفق الكلمات لا وفْق الأَفكار”. ولذا يرى المدافعون عنه أَن تجب قراءَة أَبحاثه الفكرية على أَنها شهاداتٌ أَكثر منها حدسًا بما قد يكون، وتجب مقاربة كتابته خارج ما تلقَّتْها به الإِنتليجنسيا في عصره بسخرية. وسوف ينصفه التاريخ بأَنه فنان عرف كيف ينسج في “الغريب” بكتابة بيضاء كانت جديدة ومدهشة عصرئذٍ، وأَثَّرت في بعض كُتَّاب جيله. من هنا قوله لدى سؤَاله عن روايته “السقوط”: “كل ما فعلْتُهُ أَنني طوَّعتُ الشكل للموضوع”.

لم يتوقَّف عن كتابة يومياته

الظروف المعاكسة

هذا الاضطراب في تَلَقِّي كتاباته، وضعتْهُ فيه ظروف باكرة منذ مطالع سيرته ومسيرته. فما إِن أَطل على بواكيره الأَدبية وبدأَ ينسج مسرحيته الأُولى “كاليغولا” (كتابة أُولى سنة 1938 وثانية منقَّحة سنة 1939) حتى اندلعت الحرب العالَمية الثانية التي لم يشارك فيها لسبب صحي. ولعلَّه تماهى مع بطل المسرحية أَمبراطور روما المجنون كاليغولا دائمُ البحث عن المطلق، لكنه ضحية العبثية والوضع البشري. وحين تم للمرة الأُولى تمثيلُ المسرحية (26 أَيلول/سبتمبر 1945، مع جيرار فيليب أَشهر ممثل فترتئذٍ)، هاجم النقَّادُ ما فيها من سوداوية عززت تيار الوجودية كما كان أَطلقه يومها جان بول سارتر.

مشارك في حملة مقاومة لتحرير باريس

بين فرنسا والجزائر

في تلك الحقبة، كان كامو يتنقَّل بين باريس ووهران حيث فرانْسين فور. كان دَخْلُهُ ضئيلًا وتاعسًا فرَضِيَ بوظيفة سكرتير التحرير في جريدة “باري سْوار”، والْتَحق بفريق التحرير إِلى لِيون حيث اقترن في كانون الأَول/ديسمبر 1940 بفرانسين (زوجته الثانية بعد طلاقه من الأُولى سيمونا هِـيِّــيْــه). لكن البؤْس لاحقَه من جديدٍ فاستُقيلَ من وظيفته لضائقة اقتصادية في الجريدة، فعاد مع فرانسين إِلى وهران، المدينة الجزائرية التي نشأَ فيها ولم يكن يحبها. لذا وصفها بـأَنها “مفتوحة على الفضاء كثغرٍ أَو جرح”، وكانت تعني له “مدينة الضجر”. وبدا ذلك لاحقًا في روايته “الطاعون” التي تمتلئ بمقاطع قاسية عن الحَجْر. وهناك أَيضًا وضع رائعتيه العَبَثيَّتين “الغريب” و”أُسطورة سيزيف”. وحين انتقل إِلى باريس أَرسلهُما إِلى منشورات “غاليمار” فقبلَتْهما وأَصدرتهما. ولأَن رواية “الغريب” عن رجل عربي يقتله أُوروبي، انتشرت الرواية على أَنها من مآسي الاستعمار، ورأى فيها أَن الفرنسيين لا يهتمون للعرب ويخافون منهم حين يلتقونهم.

 عاد كامو إِلى وهران يواصل كتابته مسرحية “سوء التفاهم” ورواية “الطاعون”. لكن نوبات السلّ عاودَتْه من جديدٍ فعاد إِلى فرنسا منعزلًا في بلدة شامبون (جنوبي فرنسا) لِـحُسن مناخها بين جبال فيفاريه التاريخية، بقي فيها نحو سنة حتى استقامت صحته الواهنة. وفي تلك الفترة ظلَّ بعيدًا عن زوجته فرانسين التي بقيَت في وهران كي لا تلتقط منه عدوى السلّ.

فيلسوف العبثية

اعتذر من سارتر

في باريس التقى جان بول سارتر (حزيران 1943) نهار تقديم العرض الأَول من مسرحيته “الذباب”، فعرض عليه سارتر إِخراج مسرحيته الأُخرى “المحاكمة السرية” وأَن يلعب فيها دور البطولة، فاعتذر عن ذلك. لكنه قبِلَ عرض كلود بورديه (رئيس المجلس الوطني للمقاومة ضد النازيين) بأَن يكون من أُسرة تحرير جريدة “كومبا” السرية، فزوَّدها كامو بسلسلة من المقالات النارية، حتى تحرَّرَت باريس فظهرت الجريدة إلى العلَن.

كيف انساب مع البؤُس في أَجواء عاطفية؟

وكيف أَنقذَتْه قصة حبُّه الكبير مع ماريا كازاريس؟

هذا ما أُوضحه في الحلقة الثالثة من هذه الثلاثية.