16 تشرين الأول 2007 العدد 12347 السنة 36
منذ ثلاثة أرباع القرن وهو باسط جناحيه فوق الشعر العربي، ناحتاً في جسد هذا الشعر إبداعاً أخذ (شكلاً ومضموناً، صوراً وتراكيب) نهجاً طبع الكثيرين من الشعراء، من اعترف منهم ومن لم يعترف، ومنحىً فريداً ناصره فيه كثيرون وناهضه كثيرون، وهو ساحب جناحيه فوق، عالياً فوق، لا يكبره مديح ولا يلتفت الى هجوم. وهذا جزء من شخصيته، هو الطالع من جذور القيم والفضائل، من عميق العلم والتاريخ، من أصول الفكر والفلسفة، لا هوامش تلهيه عن عطاء، ولا زبد يغريه في بقاء.
وإذا كانت مجلة “شعر” منذ انطلاقها (1957) حتى توقُّفها الثاني والأخير (1970) وضعت في مجهودها “فرض” ما سمّته “الشعر الحديث”، ومنه رامت أن “تلغي” كلاسيكية سعيد عقل، فها “شعر” أشرقت وغابت، وشمس سعيد عقل أشرقت ولا تغيب.
كل هذا يبقى في حيّز الشعر، وهو فيه أعلى من أية شهادة. تبقى مواقفه “الإيديولوجية” (كما يحلو للبعض أن يسميها) وهي لديه مدعومة بوثائق وبراهين وحجج ليس هنا مكانها، وبالعودة إليها يجد المتنطّحون لها أجوبة عن كل ما يُجيب نَقيقهم.
أما أن تبلغ الأذية اتهام سعيد عقل بأنه يعيش في إسرائيل فهذا لم يعد من التجني بل من الجهل المؤذي الذي يجب تصويبه.
في حلقة الجمعة 5/10/2007 من برنامج “إضاءات” (قناة “العربية”) استهلّ الزميل تركي الدخيل حلقته هكذا: “أحييكم من العاصمة اليمنية صنعاء، وضيفنا اليوم هو الشاعر والكاتب المسرحي اليمني محمد الشرفي”. ودارت الحلقة على اليمني (67 سنة) وشعره وما لاقاه من اضطهاد وأشعله من ثورة في بلاده. ثم دار الحوار التالي بين الزميل الدخيل واليمني حول سعيد عقل والعامية:
“محمد الشرفي: لا. أنا أرفض الدعوة إلى العامية اللبنانية كمذهب.
تركي الدخيل: ألا يعجبك شيء من شعر سعيد عقل؟
محمد الشرفي: تعجبني دواوينه الأولى ولكن لست معه في دعوته إلى العامية أو إلى مذهبه، أو أيديولوجيته التي زحفت به الى إسرائيل، وظلّ يعيش فيها إلى الآن.
تركي الدخيل: بس سعيد عقل موجود في لبنان.
محمد الشرفي: آخر ما أعلم أنه كان في إسرائيل لمدة طويلة” (انتهى الاستشهاد).
وواضحٌ هنا السخف في إطلاق هذا الرأي الأجوف غير المبني إلا على جهل هذا اليمني الذي إذا كان “يعلم” كل علمه كهذا “العلْم” بالناس وشؤونهم، فرحمات الله على معلوماته من أول ما تكونت لديه معلومات.
طبعاً أفهم ألاّ يطيل تركي الدخيل التوقُّف عند هذه النقطة لأن اليمني سيظلّ يردّد له القول مدّعياً “العلْم” به وفق “آخر ما يعلم” (ما شاء الله على ما يعلم!). وقد لا يكون الزميل الدخيل متابعاً أمور الشعر والشعراء. أما أن يدعي اليمني الشاعر هذا الأمر فمعناه أنه يجهل كل شيء عن سعيد عقل ومواقفه اللبنانية ومذهبه “الإيديولوجي” الذي جعل من لبنان اللبناني محور أبحاثه عن لبنان الحضارة منذ أول التاريخ. ولا بدّ أن هذا اليمني يعلم (على الأقل يعلم هذا) أن إشاعة من هذا النوع تؤذي سعيد عقل (لا في شعره فهو أعلى من أن يطال) بل في سمعته التي لم يمسسْها سوء حتى اليوم، وهو يمضي بها عامه الخامس والتسعين في لبنان (ولم يغادره في حياته أبداً) رافلاً بصفاء ذهني وزخم كتابي، غير شاعر بما يطلقه دعيّ يكون “علْمه” كـ”علْم” الشرفي.
أما العامية وظروفها، فموعدها في المقال المقبل.