هذا الفيرمير… هذا الفيرمير المدهش
البدء بنزع اللوحات عن جدران المتحف
مغمورًا مات، وربما حزينًا، لأَنه لم ينَل على حياته ما يستحقُّه من تقدير كافٍ، هو الذي لم يعمِّر كثيرًا (مات عن 43 سنة) ولم يرسم كثيرًا (34 لوحة هي كلُّ ما رسَمَ طوال حياته). مع ذلك ضَجَّ العالَم الفني أَخيرًا بمعرضه الذي جاء أَكبر علامة تشكيلية في هولندا بين جميع المعارض طوال السنوات العشر الأَخيرة من هذا القرن.
هذا هو قدَر عبقريّ الريشة الهولندي يوهانس فيرمير (1632-1675) وهو يُعتَبَر، مع مواطنه رامبرانت، أَهمّ رسام إِبان العصر الذهبي الهولندي في القرن السابع عشر.
أَنجح معرض في تاريخ المتحف
أَبدأُ ببعض الوقائع: مع نهاية الأُسبوع الماضي انتهت فترة الأَشهر الخمسة (10 شباط/فبراير-10 حزيران /يونيو) للمعرض الكبير والأَهم الذي، لأَول مرة بهذه الكمية الكبيرة من لوحاته دفعةً واحدة، أَقامه له “المتحف الوطني الهولندي” في أَمستردام، مستعيرًا لوحاته من متاحف أُخرى تقتنيها (مع أَنه لم يستطع إِلَّا جمع 28 لوحة من أَصل مجموع لوحاته الـ34)، ومعتبرًا أَن معرض فيرمير هو من أَكثر المعارض نجاحًا في تاريخ المتحف (تأَسَّس في لاهاي سنة 1789 وانتقل إِلى أَمستردام سنة 1885، وسنة 2013 – بعد عشر سنوات من الترميم – أُعيد افتتاحُه فاستقطَب عامَي 2013 و2014 نحو مليونَي زائر، وهذا أَكبر عدد زوار بين جميع متاحف هولندا).
كبار الزوار
عن آخر الإِحصاءات التي أَعلنها “المتحف الوطني” أن زوار المعرض الذين نجحوا في شراء البطاقات لدخوله، بلَغوا نحو 650،000 من 113 دولة في العالَم، بينهم كبارٌ من مستوى الرئيس الفرنسي إِيمانويل ماكرون، المخرج العالَمي ستيفن سبيلبرغ، الممثلة الأَميركية جايمي لي كورتيس (ابنة الممثل طوني كورتيس، والحائزة على أُوسكار “أَفضل ممثلة” لعام 2023)، الممثلة البريطانية غيليان لي أَندرسون، والكاتبة الكورية مين جين لي. وعن معظم الزوار – وفق الكتاب الذهبي على مدخل المتحف – أَن أَكثر لوحتَين مشهورتَين ومنتشرتَين في المواقع الإِلكترونية العالَمية استقطبتا الزوار هما “الفتاة ذات اللؤْلؤة في أُذنها” (رسمها فيرمير سنة 1665) و”ساكبة الحليب” (رسمَها سنة 1658). لذا أَقبل الزوار إلى المعرض من أَنحاء العالَم كي يروا هاتين اللوحتَين الأَصليَّتَين معروضَتَين في المتحف. وحول هذه الظاهرة صرَّح مدير المتحف المؤَرخ التشكيلي الهولندي تاكو ديبيتْس (م. 1968): “لأَن فيرمير فنَّان السلام والهدوء وحميمية الحياة اليومية، ولأَننا أَردنا أَن يتمتَّع الزوار بتأَمُّل اللوحات عن قُرب ولوقت كافٍ يحتاجونه، عمَدْنا إِلى تحديد عدد بطاقات الدخول إلى المتحف، فلا يؤْذي توافُدُ المئات في كل زيارة إِلى إِفساد التأَمُّل المتأَنّي أَمام كل لوحة”.
“الفتاة ذات اللؤلؤة في أُذنها”
نفاد البطاقاتٍ باكرًا
هذا ما جعل البطاقات تنفد مسبقًا في أَيام معدودة عند افتتاح المعرض (شباط/فبراير) مع أَن بعضها بيع في السوق السوداء بما بلَغ 2700 يورو لإِحدى البطاقات وفق شركات البيع الإِلكترونية العالَمية. وعن تلك الشركات أَن الزوار كانوا بنسبة 55% من هولندا، 17% من فرنسا، 16% من أَلمانيا، 16% من المملكة المتحدة، و14% من الولايات المتحدة، عدا سائر الدول.
“ساكبةالحليب”
تمديد العرض لـ6 لوحات
بعد إِعادة اللوحات إِلى مصادرها لدى المتاحف الأُخرى، وبينها سبع لوحات يشاهدها الجمهور للمرة الأُولى في هولندا، بينها ثلاثٌ من مجموعة فْريك النادرة في نيويورك (متحف ماديسون)، واحترامًا مَن لم يستطيعوا أَن يجدوا بطاقات للدخول إِلى المتحف طوال أَربعة أشهر المعرض الكامل، قرر مدير المتحف الإِبقاء على ست لوحات معروضة، أَربعٌ منها لمجموعة “المتحف الوطني” ذاته، إِضافة إِلى لوحة “الفتاة ذات القبعة الحمراء” (رسمها فيرمير سنة 1669) وهي مستعارة من متحف الفنون الوطني في واشنطن، ولوحة “صبية جالسة إِلى آلة الهاربْسيكُورد” (الصيغة الأُولى للبيانو لاحقًا) رسمها سنة 1670، وهي مستعارة من مجموعة متحف ليدن في نيويورك، وفيه مجموعة كبرى من لوحات هولندية عائدة إِلى القرن السابع عشر.
وقائع غير مسبوقة
هكذا أُقفل معرض فيرمير على وقائع أُخرى غير مسبوقة في تاريخ المتحف، بينها أَن آلاف الإِنترنتيين زاروا موقع المعرض وكانوا في ذلك دافعًا لكثيرين أَن يبادروا إِلى شراء البطاقات باكرًا، وعند التعذُّر دخلوا إِلى الموقع، وكان نحو 800،000 زائر دخلوا على شبكة الإِنترنت وتحاوروا إلكترونيًّا مع مسؤُولي العلاقات العامة في المتحف، مستفسرين خصوصًا عن معلومات حول بعض اللوحات، أَلقى شروحًا لها الممثل ومقدِّم البرامج الإِنكليزي ستيفن فراي.
عدا ذلك سجلت إِدارة المتحف مبيع نحو 100،000 نسخة من كاتالوغ المعرض (وهذا رقم لم يحصل لأَي معرض سابق في تاريخ المتحف) صممتْه الاختصاصية الهولندية في التصميم والإخراج الطباعي إِيرما بْلُوم وكانت أَخرجت عددًا كبيرًا من كاتالوغات “متحف الفن الحديث” في نيويورك.
وعن الإِدارة كذلك أَن المتحف أَصدر لهذه لمناسبة كتاب “فيرمير: الإِيمان، الضوء، والانطباع” (180 صفحة حجمًا كبيرًا كامل الأَلوان أَنيق الطباعة) وضَعَه رئيس دائرة الفنون الجميلة في المتحف غريغور ويبِر، وأَصدر معه كتابًا خاصًّا بالأَولاد عن فيرمير، وما إِن انتهى المعرض حتى كانت مباعةً جميعُ نُسَخ الكتابَين.
أَرقام دامغة
لم أَشأْ أَن أُعلِّق على وقائع هذا المعرض. أَرقامه ووقائعه وإِحصاءاته وحدها كافيةٌ وتغْني عن أَيِّ تعليق، للدلالة على شعوب حضارية تَدخل الأَعمال الفنية في صميم مسيرتها اليومية، فالفنُّ جزء من البرنامج اليومي، والتثَقُّف عنصر أَساسي في بناء الشخصية الذاتية والجماعية.
يبقى أَن فيرمير، بعد 348 سنة على وفاته، لقِيَ من التكريم ما لم يكُن ممكنًا أَن يلقاه على حياته. وهذا غالبًا قَدَرُ المبدعين: يَغيبون جسدًا وتبقى أَعمالهم بعدهم حيةً حاضرة لكل عصر وكل جيل.