… وعادت كاترين إِلى التلَّة بعد 200 سنة
هيبة القصر وَهَيبة اللوحة
من أَغرب ما لدى هُواة الأَعمال الفنية، سعيُهم إِلى اقتناء لوحة أَو تمثال أَو نُصُب أَو عمل موسيقي أَو غنائي، مهما كان ثمنُه، ومهما كانت الصعوبات في الحصول عليه. وهذه حال الكاتب والمؤَرخ وجامع التحف الإِنكليزي هوراس والبُول (1717-1797)، وهي ذي قصة اللوحة الكانت ضائعة و… عادت إِلى مكانها.
القصر المهيب
سنة 1749 اشترى هوراس “بيت تلة التوت” (الفراولة) لغاية فنية كي يجمع في هذا القصر الأَعمال الفنية التي يقتنيها. ويقوم القصر على تلَّة كانت كثيفةٍ بأَشجار التوت الأَحمر فحمل اسمَها المكانُ (جنوبي غربي لندن على ضفة نهر التايمس).
أَهمية هذا القصر أَنه ينتمي إِلى الهندسة القوطية التي راجت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، آخذًا طابعه من هندسة القرون الوُسطى لدى معظم الكاتدرائيات في أُوروبا ذاك الزمان.
هذا هو القصر الذي أُخذت منه لوحة كاترين دو ميديتْشي (فلورنسا 1519 – باريس 1589)، وهي كانت ملكة فرنسا من 1547 إِلى 1559، زوجةً للملك هنري الثاني ووالدة الملوك: فرنسوا الثاني وشارل التاسع وهنري الثالث. وبقيَت اللوحة تائهة نحو 200 سنة قبل أَن تعود إِلى مكانها في صدر القاعة الكبرى من القصر، وأَهميتها أَنها اللوحة الوحيدة الباقية من عهد الملكية.
غياب اللوحة يعود إِلى كونها بيعَت لاحقًا في مزاد علنيّ مع مقتنيات أُخرى للكاتب، فضاعت مع الأَغراض التي حملتْها عربة حصان بعد المزاد وذهبَت بها بعيدًا.
قصة اللوحة
لوحة “كاترين دو ميديتشي وأَولادها الأَربعة” تعود إِلى سنة 1561 في محترف فرنسوا كْلُوِيه رسام البلاط الملكي، وتأْثيرُها أَنها رسم أَقوى امرأَة سُلطةً وحضورًا في أُوروبا عصرئذٍ.
اللوحة ترجيحًا رُسمت بعد وفاة زوجها الملك هنري الثاني، لذا بدت فيها تغمر وريث أَبيه: ابنها البكر شارل، ليكون أَولادها الأَربعة آخر العنقود في سلالة فالوَى التي أَعقبتْها سلالة البوربون سنة 1589.
كان والبُول مهتمًا كثيرًا بالسلالات الأَرستقراطية، وخصوصًا بسلالة ميديتْشي، وأَكثر: كان ينوي كتابة سيرة تلك العائلة، لذا راح يجمع مواد مكثَّفة عنها، واشترى هذه اللوحة بمبلغ 25 باوند سنة 1774 من مالكها السيد بايْدْ، وليس معروفًا حتى اليوم كيف وصلَت اللوحة المهمة جدًّا من فرنسا إِلى بايد في لندن. واليوم، في تقدير المجلس الأَعلى للفنون، تُساوي هذه اللوحة نحو مليون باوند مع عرضها في قاعة “بيت تلة التوت”.
ولأَن والبُول كان الابن الأَصغر لـروبرت والبول (أَول رئيس وزراء)، صرف ثروة كبرى على الفنون بتشجيع من أَبيه، فجمع أَعمالًا كثيرة لم تكن جميعها كما كان يبتغي. فهو لم يستطع الحصول مثلًا على المشط العاجي للقديسة برثا، ولا على الدرع المذهّب لفرنسيس الأَول، ولا على قبعة الكاردينال وُوْلْسلي، لكنه مع ذلك توصَّل إِلى الحصول على مكتبة ثمينة ولوحات من روبنز وفان دايك وجوشُّوَى رينولدز وبيتر ليلي.
القصر المرمم على تلّة
متطلبات الحفظ
هذه الكنوز النادرة الرائعة حفِل بها القصر (بيت تلة التوت)، وكان والبُول جهَّزه بالمتطلِّبات الضرورية للحفظ والصيانة من صناديق للكتب ورفوف مصقولة ومواقد لحفظ الحرارة من دون رطوبة، وسقف يحمي الداخل على غرار أَضرحة القديسين والملوك. وأَخذ الزوار يتوافدون بالمئات ليشاهدوا تلك الكنوز، حتى أَنه قال مرة: “إِنني بنيت نَزْلًا على صورة قصر قوطي”.
ومع أَنه كان محاطًا بعدد كبير من الأَصدقاء الخُلَّص، وتلقى رسائل إِعجاب كثيرة كما كانت الدُرجة في القرن الثامن عشر، لم يتزوَّج وكانت حياته الخاصة غامضة ومقفلَة.
سنة 1797 آل القصر وموجودات إِلى ابنة أَخيه فنقلتْها معها إلى أُسرة زوجها من سلالة اللورد وولدغريف. لكن المزاد العلني سنة 1842، المعروض طيلة شهر كامل، بعثر تلك الموجودات فتفرَّقت إِلى أَكثر من مكان.
… وعادت اللوحة إلى الصدارة
بعدما تَم وضع القصر على لائحة التراث العالمي بين 100 بيت وقصر في لائحة الأَبنية المهدَّدة بالاندثار، تم ترميم القصر وتحويله متحفًا سنة 2010.
وبعدما لوحة “كاترين دو ميديتشي وأَولادها الأَربعة” كانت مشاهدتُها مقتصرةً على حفنة زوار منذ وفاة والبُول، باتت اليوم مع عودتها إِلى القصر متاحة للجمهور العام، في القاعة الكبرى من القصر الفخم المرمَّم.