وانغ جانْيـي نجمة الشِعر والفَلَك
وانغ جانْـيـي نابغةُ عصرها
في بحثي عن شؤُون المرأَة في الصين، عثَرتُ على مبدعة من القرن الثامن عشر سطَعَتْ في فضاء الفَلَك والشِعر والرياضيات ما جعَلها متفردة بين النساء في تاريخ الصين.
إِنها وانغ جانْـيـي التي اكتشفت سرَّ الكُسُوف القمري، وناضلَت عصرئذٍ من أَجل التعليم للجميع ذُكُورًا وإِناثًا.
فماذا عنها؟
متميِّزة في عصرها
قبلها كان في السائد أَن الكُسُوف دليلٌ على غضب الآلهة الصينيين. ولم تنكشف الحقيقةُ إِلَّا حين أَصدرَت كتابها الذي جاء فيه أَن “الكسوف عملية فلَكية دورية يُحدثها القمر”.
هي من النساء العالِمات القليلات المتميزات بالمواهب المتعددة في الصين القديمة. دخلت تاريخ بلادها بكونها عالِمةَ فَلَك ورياضيات وشاعرة، عملَت رغم جميع الصعوبات على نشر اكتشافاتها العلمية حول الفضاء ودَعَت – عكسَ ما كان سائدًا – إِلى تعليم الرياضيات والعلوم للجميع دون تفرقة بين صبيان وبنات، ما سبَّب لها انتقادات عنيفة في الأَوساط التي لم تكن عصرئذٍ تسمح للفتيات بالتعلُّم.
حاملةً شعلة العلْم والكتابة
من أسرة مثقفة
إِنها وانغ جانْـيـي (1768-1797) من سلالة تْشِنْغْ المانْشُوِيَّة (آخر السلالات الأَمبراطورية في تاريخ الصين). ففي منتصف القرن الثامن عشر، كانت انتشرت في الصين التعاليم الكونفوشية الـمُحدَثة المتشدِّدة المحافِظة اجتماعيًّا وفكريًّا. كان جدُّها محافظ مقاطعة كبرى ولديه مكتبة ضخمة غنمَت منها حفيدته جانْـيـي فتعلَّمَت مبادئ القراءة منذ سنوات طفولتها الأُولى، حتى إِذا بلغَت السادسة عشرة، رافقَت والدها الطبيب في رحلات استكشافية متعددة إلى مدن ومقاطعات في شرقي الصين، ما ساعدها على إِغناء اطِّلاعاتها وملاحظتها التقصير في حقوق التعلُّم لدى تلك المناطق الشاسعة من الصين، ما ولَّد لديها الشعور بضرورة النضال لتأْمين التعلُّم للجميع.
هكذا إِذًا: هي إِذًا من أُسرة غنية ومثقَّفة، تلقَّت العلْم الكان مقتصرًا على قلةٍ من بنات عصرها. والدُها علَّمها الطب والرياضيات والجغرافيا، جدُّها الثقيف لقَّنها علوم الفلك، فيما جدَّتُها أَدخلَتْها إِلى عالَم الشعر، فنشأَت الفتاة ذكيةً على شغف بالقراءة والاطِّلاع من مكتبة جدِّها، ومن زوجة ضابط مغولي تعلَّمت ركوب الخيل والصيد بالقوس والنشاب وبعض الفنون العسكرية.
النهم إِلى التعلُّم
في الثامنة عشرة، التقَت في مقاطعة نانكين نساءً مثقفات عملَت معهن على إِكمال تحصيلها في علوم الفلك والرياضيات. وفي هذه الأَخيرة تمكنَت من دراسة معمَّقة جعلتها فتناولَت كتاب “مبادئ الحساب” لعالِـم الرياضيات الصيني ماي وِنْدِنْغ وبسَّطَتْهُ لجعله في متناول العامة.
في الرابعة والعشرين وضعت كتابًا مبسَّطًا في الرياضيات من خمسة أَجزاء للمبتدئين في تعلُّم الرياضيات.
في الخامسة والعشرين تزوَّجت إِنما بقيَت على حبها الوحيد: التعلُّم. ولأَنها حصلت دروسها إِفراديًّا دون مدرسة جماعية، نشأَت على جعل العلوم والرياضيات متاحَةً للشعب كلِّه، واختصرت بعض المعادلات الرياضية لتكون أَسهل تعلُّمًا، بعدما كانت عصرئذٍ معقَّدةً مكتوبةً بِلُغَة صعبة للقلَّة والنُخبة. كما بسَّطت بعض المفاهيم العلْمية لتوضح أَنْ لن يقَعَ أَحدٌ خارج الأَرض ولو انها كوكب مدوَّر. وواصلت تحصيلها واكتشافاتها العلمية متكرِّسة لشغفها في الكتابة وفي الشعر، فوضَعَت 13 جزءًا بين مجموعات شعرية ونثرية وقصائد للغناء. وتمحورت قصائد كثيرة لها حول الطبقات الشعبية والنساء العاملات، وطالبَت بإِلغاء التمييز بين الأغنياء والفقراء، ودافعَت عن المساواة بين الرجل والمرأَة، وعن ضرورة تعليم الفتيات، معتبرة في بعض قصائدها أَن المرأَة المتعلِّمة يمكن أَن تكون مبدعة وبطلة في آن، فتخدم مجتمعها الصغير ووطنها الكبير. وكانت بذلك تنتقد عنيفًا ظاهرةَ الإِقطاع الاجتماعي في عصرها، من هنا قولها: “حين يتحدَّث الناس في مجتمعنا عن التعليم والعلوم، يتكلَّمون كأَن المرأَة غيرُ معنيَّةٍ في هذا القطاع، ويقتصر دورها على الطبخ والخياطة دون إِشغالها في كتابة مقالات وأَبحاثٍ للنشر، أَو درس التاريخ، أَو كتابة الشعر أَو إِتقان الخط… الرجل والمرأَة جناحا المجتمع ولهما الحق بالتوازي في اكتناز العلم”.
قبل وفاتها، حين شعرت بوطأة المرض، أَودعَت كتبها الشعرية والعلمية لدى صديقتها مدام كُواي (1763-1827) فأَودعتْها هذه بعد وفاتها نسيبًا لها عالِمًا هو كيان يـيـجي (1783-1850) عملَ على نشر المخطوط منها في فترة لاحقة.
رمزُ المرأَة الطليعية
عكس الأَساطير
فيما كانت الأَساطير والميثولوجيات والمعتقدات الدينية السائدة مسيطرةً على معظم الشعب الصيني في ذاك القرن الثامن عشر، قاربَت جانْـيـي علْم الفضاء بمنطق علميّ نَقَضَ كلَّ ما كان سائدًا من تمضية العلماء سنواتٍ طويلةً يتأَملون في الفضاء محاولين استكشاف غوامضه، فجاءت هي بمعادلات فلَكية مبنية على حسابات من إِقليم الرياضيات، خصوصًا علْم المثلَّثات (trigonometry) وكتبت أُطروحةً عن نظرية فيتاغوراس، راحت تبسِّطها للأَفهام.
من أَبرز اكتشافاتها إِثباتُ الكسوف القمري. فبعد مراجعتها خلاصاتِ السنوات السابقة من التحليلات، غربلَت معظمَها وخلُصَت إِلى أَن الكسوف يحصل حين يمرُّ القمر في ظل الأَرض، وكتبَت مقالًا علْميًّا موثَّقًا في هذا الموضوع بقي صالحًا لأَمد طويل بعدها.
هي والشعر
كتبت جانْـيـي الشعر، متناولةً في معظم قصائدها مواضيعَ حياتيةً من رحلاتها مع أَبيها، ودعَت إِلى التساوي بين الرجل والمرأَة، ما كان صادمًا في عصر سلالة التْشِنْغ. فهي كانت مؤْمنة بأَن للرجال والنساء الرغبةَ ذاتها في التعلُّم لذا يجب أَن تتاح للجميع هذه الفرصة.
في عز عطائها وزخم نتاجها، توفيَت عن 29 عامًا لكن اكتشافاتها العلمية بقيَت طويلًا في التداول. وسنة 1994 أعلنَ “الاتحاد الفلَكي الدولي” عن إِطلاق اسمها على منطقة بارزة من كوكب الزهرة.