مئوية عاصي الرحباني (2 من 2)
05-05-2023 | 19:24 المصدر: بيروت- النهار العربي
جلسىة تمرين في مكتب الرحباني: جوزف عازار بين فيروز تغنِّي وعاصي إِلى البيانو
(4 أَيار/مايو: المئَوية الأُولى 1923-2023 لولادة عاصي الرحباني)
في القسم الأَول من هذا المقال، وفي مئوية عاصي الرحباني، عرضتُ مع الفنان جوزف عازار بداياته مع “الأُستاذ عاصي” وكيف تدين شهرتُهُ حتى اليوم لمطالعه في الفضاء الرحباني.
في هذا القسم الأَخير أُواصل مع جوزف عازار ذكرياته في استذكار مئَوية الكبير عاصي.
تأْجيل “سفَر بَرلِك”
سنة 1964 طلب منه “الأُستاذ عاصي” أَن يتدرَّب على ركوب الخيل، استعدادًا لتصوير أَول فيلم رحباني: “سفَر برلك”، ففعل. لكنه لم يُكْمل لأَن البرنامج تَغَيَّر وتأَجَّل تصوير “سفَر بَرلِك”، إِذ فضَّل عاصي ومنصور البدء بفيلم “بياع الخواتم” لأَنه عمل جاهز وكان نجح جدًّا في الأَرز ودمشق.
وهكذا كان: دخل جوزف عازار مع فريق العمل إِلى ستوديو بعلبك (سن الفيل) للتسجيل من جديد بعدما أَعاد عاصي ومنصور صياغة بعض الأَلحان تنقيحًا وتجويدًا.
ماكياج “راجح”
هنا يتذكَّر جوزف أَن مُخرج الفيلم يوسف شاهين سأَل عاصي عمَّن سيلعب البطولة في دور “راجح”، وهو الأَساس في القصة. أَشار عاصي إِلى جوزف، فاستغرب شاهين أَن يقوم هذا الشاب ابن السابعة والعشرين بدور “راجح” الذي عنده ثلاثة أَولاد وجاء الضيعة ليخطُب منها ابنةً لأَحد أَولاده. أَجابه عاصي أَنه سيأْتي باختصاصية ماكياج من فرنسا تجعل لـ”راجح” هيئة رجل مُسِنّ. حاول شاهين رفْض الأَمر فأَصرَّ عاصي، بحزم لا يقبل الجدل، على أَن الدور لن يقوم به إِلَّا جوزف عازار. وهكذا كان، وصدر الفيلم سنة 1965 وكان دور “راجح” محطةً عالية في مسيرة عازار الفنية، حتى أَن مروان ابن منصور الرحباني، يوم كان الجمْع في حزيران/يونيو 1986 يدفنون عاصي في الضريح، بادرَه قائلًا: راح عاصي يا راجح”.
“راجح” السينما جايي من الأَحراش
ضياع فرصة “سفَر برلِك”
سنة 1965 وقَّع جوزف اتفاقًا على مسرحية “موَّال”، في عمل يومي مع روميو لحود الذي أَطلق عامئذٍ مسرحًا يوميًّا في فندق فينيسيا، وكانت تلك مغامرة ناجحة بمشاركة وليد غلمية. ذات يوم، اتصل به صبري الشريف طالبًا منه أَن يلتقي “الأُستاذ عاصي” في المكتب، ففعل، وإِذا بين الحاضرين مع عاصي ومنصور: سعيد عقل، جورج شحادة، كامل التلمساني، المخرج هنري بركات. انفرد به عاصي ليطلب منه أَن يَلعب دورًا رئيسًا في فيلم “سفر برلك” الذي كان يَجري التحضير لتصويره، ولأَجله كان عاصي سابقًا طلب من جوزف أَن يتدرَّب على ركوب الخيل.
انقبضت أَعصاب جوزف عازار وهو يضطر أَمام “الأُستاذ عاصي” إِلى الاعتذار، لارتباطه مساءَ كل يوم بمسرح روميو لحود. وغادَر المكتب تاركًا “الأُستاذ عاصي” متأَثرًا بهذا الاعتذار.
ريما (فيروز) و”راجح” (جوزف عازار) في لقطة من الفيلم
مع عاصي من جديد بعد 15 سنة
مرَّت سنوات طويلة، وجوزف عازار يتنقَّل في أَعمال متعدِّدة مع صباح ووديع الصافي وزكي ناصيف ووليد غلمية، بين أُغنيات متفرِّقة ومهرجانات وحفلات في لبنان والـمَهاجر.
طال انقطاعُه عن المسرح الرحباني نحو خمس عشرة سنةً، حتى 1980 حين اتصل به منصور الرحباني طالبًا منه الحضور إِلى منزله. وإِذ فعل، اصطحبَه منصور إِلى بيت عاصي الذي بادره بأَنهما يحضِّران حفلةً لثلاث ليالٍ في عمَّان، ويريده عاصي أَن يغني قصيدة كتبها منصور ولحَّنها عاصي، وفيها:
لي أَيا عمَّانُ لي عتَبُ
عتَبُ العشاق لا سبَبُ
إِنَّ قلبًا أَنتِ غُربتُهُ
لا تقولي كيف يغتربُ
بعد تلك الحفلة في عمَّان، وبالعودة إِلى بيروت، طلب إِليه منصور مجدَّدًا الاجتماع بعاصي فحضَر، وطلب إِليه عاصي المشاركة في عملهما الجديد “المؤَامرة مستمرَّة” في كازينو لبنان. وتمَّ الاتفاق على العمل، بفرح عازار أَن يعود إِلى المنبع الأَول الذي أَطلقه شهرةً: المسرح الرحباني.
“الأُستاذ عاصي” وصديقه الدائم “البُزُق”
المؤامرة مستمرَّة
قبل الانصراف، سأَله عاصي عن البدَل الماليّ الذي يَطلبه لقاءَ قيامه بالغناء في “المؤَامرة مستمرّة”، فقبَّل جوزف جبين عاصي، وانصرف غيرَ مجيبٍ عن ذاك السؤَال، كما كانت دومًا عادتُه في جميع الأَعمال الرحبانية أَن يبدأَ التنفيذ دون أَن يعرف كم سيتقاضى عن مشاركاته.
كانت تلك آخر مشاركة له في المسرح الرحباني سنة 1980. وحين مرِضَ عاصي في الفترة الأَخيرة، كان يتردَّد عليه، وكان بين آخر المودعين يوم مأْتم عاصي في أنطلياس.
الممتلئ بالعبقرية
قبل أَن تنتهي جلستي إِلى هذا الفنان الوفيّ – وما أَكثرَ مَن شربوا من النبع الرحباني وعَقُّوهُ – يعود جوزف عازار إِلى التذكار ونحن نستذكر معًا “الأًستاذ عاصي” في مئوية ولادته.
تغيم عيناه في البعيد كأَنه يستحضر طيف عاصي: “اكتسبتُ الكثير من الأُستاذ عاصي. كان شخصًا فريدًا رائعًا، حازمًا في جدية مطلقة، وودودًا في عناية مطلقة. كان شفَّافًا بقدرما كان ممتلئًا بعبقرية فذة، وسطوعِ حضورٍ لا مثيل له. لقائي به ذاك النهار من سنة 1961 غيَّر مجرى حياتي كلها صوب الفن العالي، في نقطة تحوُّل سعيدة من أَول الطريق… معه، دخلتُ إِلى الفن من بابه الواسع. ودخولي عالَم عاصي ومنصور علَّمني أَن أَستسهل الصعب من الأَلحان والأَداء، حتى أَصعبها، ومنها مثلًا في “بياع الخواتم” أُغنية “طيري يا رفوف الدرُّج”.
“مئوية عاصي الرحباني”: سفرٌ دائمٌ إِلى الخلود
حضور السيدة فيروز
ويختم عازار: “في مئوية “الأُستاذ عاصي” أَتذكَّر مجدًا رسمه لي مع الكبير الآخر منصور، في أَعمال ستبقى خالدة في ذاكرة الفن اللبناني الراقي، وعلى قمته المضيئة أَبدًا حضورُ السيدة الكبيرة فيروز.
مع عاصي ومنصور كنا في الزمن الجميل. أَدين لهما بشخصية “راجح” التي حملتْني إِلى شهرةٍ ما زلتُ أَحملها على جبيني حتى اليوم، كما أَدين للأُستاذ عاصي عند تمسُّكه بي لهذا الدور حين لم يكن المخرج يوسف شاهين مقتنعًا بي لأكون “راجح”، الدور الذي، بين المسرح في غابة الأَرز وفي “معرض دمشق الدولي” وفي السينما حقَّق لي شهرةً أَوسع من خيالي. وما زلت أَشعر بِيَد الرعاية من الأُستاذ عاصي تُمسِك بيدي وتوجِّهُني. تعلمْتُ منه الكثير ومن الأُستاذ منصور. تعلَّمتُ كيف نقَلا إِلينا مناخًا لبنانيًّا في الأُغنية اللبنانية.
في مئوية “الأُستاذ عاصي، أَضرع إِلى الله أَن يظلَّ ذكرُه دومًا على المستوى الأَعلى الذي يَليق به، وأَن يَحفظ الله السيدة الكبيرة فيروز ذخرًا لنا وللبنان وللفن الذي حملَه الأستاذان عاصي ومنصور إِلى أَقاصي العالم”.
ختامًا…
في مئوية عاصي، إِخال كثيرين، مثل الوفيّ جوزف عازار، يتطلَّعون إِلى تاريخ الفن اللبناني، فيَرَون شعلة عاصي ومنصور عاليةً فوق… فوق… “مطرح اللي بيوقف الزمان”… وباقيةً تَهدي جميع الأَجيال الحالية والمقبلة إِلى الفضاء الرحباني الخالد.