2 تشرين الأول 2007 العدد 12335 السنة 36
الفنانةُ التشكيلية الكويتية نفسُها التي قالت لي: “نحن في الكويت نتأثّر بالعناد اللبناني في الثقافة والإبداع، ونُعجَب بالمقاومة اللبنانية في الثقافة والفنون” (وكانت عبارتُها تلك مقدمة مقالي “أُعجوبة الإبداع اللبناني” – “قبس من لبنان” 22)، كتبَتْ لي (بعد مقالي “كيف نَمحو هذه الأُمّيّة العربية؟” – “قبس من لبنان” 23) رسالة جاء فيها: “قبل أن نناقش كيفية “مَحو” الأُمّيّة، يَجب أن نناقش كيفية وقف الاندفاع “نَحو” الأُمّيّة. فليس في بلادنا “مَحو” الأُمّيّة بل جنوح “نَحو” الأُمّيّة بقصور فاضح إزاء العناية بالعنصر البشري في مجتمعاتنا. الأُمّيّة ليست أُمّيّة القراءة والكتابة وحدها بل أُمّيّاتٌ صحية وتشريعية وثقافية وحقوقية للإنسان تؤدي جميعها إلى المآسي السارية حالياً في مجتمعاتنا سريان النار في الهشيم، ما يضع السياسيين في عالمنا العربي أولاً أمام ضمائرهم، ثانياً أمام مسؤولياتهم، وثالثاً أمام شعوبهم المطحونة بالجهل والفقر والمرض”.
كم معها حق، الصديقة الفنانة التشكيلية الكويتية الثقيفة النابضة بنبض الشعب العربي المقهور. وكلامها يقود الى التمييز بين الجاهل والأُمّيّ. فالجاهل هو الذي لا يعرف، ولا يعرف أنه لا يعرف. أما الأُمّيّ فليس الذي لا يعرف بل الذي يعرف أنه لا يعرف، ويعرف أنه لا يريد أن يعرف الذي لا يعرفه. وهذا أَسوأُ الجهل وأَقْتَلُ الأُمّيّة.
الأُمّيّ هو الذي يعرف أنه على خطأ، ويظلّ يوغل في خطَئِه متحدّياً مُحيطَه بوقاحة، ومواصلاً خطأَه بسلوك يثير اشمئزاز مُحيطه، ولا يتّعظ بل يُصِرُّ على الخطأ ويتَّهم بالخطأ الآخرين. وهو أُمّيّ السلوك الاجتماعي والصحي والبيئي والثقافي، ولا يريد أن يُصلح أُمّيّته لأنه مستريح فيها ولا يرغب في مواجهة الآخرين كي لا يكشف لهم تَخلُّفه.
الجاهل هو الذي لا يعرف قيمة الكتاب وأهمية الموسيقى ودَور الرسم والنحت وفضل الثقافة على تطوير المجتمع وتهذيب السلوك وإعداد الأجيال الجديدة. أما الأُمّيّ فهو الذي يعرف أنه لا يعرف أهميتها جميعاً، ويبقى يصرُّ على أن يظلّ لا يعرف لأنه يعرف بأنه إذا عرف سيواجه مُجتمعاً يُحاسبه على مستوى ما يعرف فيشيح عنه، لذا يفضِّل أن يبقى متحجِّجاً بأُمّيّته التي تكون عندها واقية إياه من مواجهة الآخرين.
هنا نصل الى النقطة الأهمّ: إذا كان هذا التوصيف (على إيجازه وعموميَّته دون التفاصيل) ينطبق على عامة الناس، فكيف حين يكون الأُمّيّ هو الحاكم أو ذا القرار في السلطة (من موقع وزاري أو نيابي أو إداري مسؤول)؟
والأخطر من هذا الأهمّ: أنْ يكون مَن في السلطة أو الحكم أو موقع القرار مدركاً مخاطر الأُمّيّة ولا يسعى الى رفع مخاطرها عن شعبه، بل يعمل على إبقاء معظم شعبه غارقاً في الأُمّيّة والجهل فلا تنفتح عيون مواطنيه على ما لا يريد هو أن يرَوه أو يدركوه أو يستنتجوه أو يتجاوزوه. وهذا نموذج سلطوية عمياء أوتوقراطية ديكتاتورية توتاليتارية تنتهي غالباً برصاصة اغتيال أو على حبل المشنقة، وهذا هو الفرق بين حاكم يسعى بشعبه الى “مَحو” الأُمّيّة، وحاكم يسعى بشعبه “نَحو” الأُمّيّة.
وبين الـ”نَحو” والـ”مَحو” يكمن كل الفرق بين دولة متطورة تقود شعبها الى مواكب القرن الحادي والعشرين، ودولة متخلّفة تقود شعبها “نَحو” أن يبقى أعداداً بلهاء في منظومة هذا التعيس المتخلّف المسمَّى: العالم الثالث والثلاثين.