الحدائق العامة بريشاتهم (1 من 2)
سورا: “بعد ظهر الأَحد في جزيرة جات”
لم أَكُن أُفكِّر، حين بدأْتُ في “النهار العربي” سلسلة مقالات “… بريشاتهم”، أَن تتَّخذ هذا الصدى لدى القراء من كلِّ العالم العربي، واجدين فيها فسحةَ ثقافةٍ عامة ممتعة وجديدة. لذا واصلتُ البحث عن مواضيع مشترَكة تناولَتْها ريشاتُ الرسامين كي أَقتطف ما يواصل متعة هذه السلسلة ومضمون نصوصها ولوحاتها.
هكذا، بعد مجموعة المقالات التي سبق صدورُها في “النهار العربي”: “الأَعراس بريشاتهم”، و”المطر بريشاتهم”، و”الصيف بريشاتهم”، و”الخريف بريشاتهم”، و”الثلج بريشاتهم”، و”القمر بريشاتهم”، و”قصص الحب بريشاتهم”، و”الحصان العربي بريشاتهم”، و”حدائق الفنانين بريشاتهم”، و”الأَنهار بريشاتهم”، و”الطيور بريشاتهم”، هنا مقال في جزءَين عن “الحدائق العامة” بريشات فنانين جلَسوا فيها وأَمضَوا ساعاتٍ هانئةً يستريحون أَو يرسمون. فبعض الحدائق العامة من أَجمل الأَماكن للراحة والهدوء، عدا قيمتها الفنية والطبيعية. ولكلٍّ منها قصةٌ دفعت بالرسام كي يكون في الحديقة العامة فيرسمها أَو يرسم فيها.
في هذا الجزء الأَول خمسة منهم، والخمسة الباقون في الجزء التالي.
1. الفرنسيّ جورج سورا: بعد ظهر الأَحد في جزيرة جاتْ
جورج سورا (1859-1891) هو من أَبرز رسامي الفترة الأَخيرة من تيار الانطباعية الذي عَـمَّ أُوروبا وسواها في القرن التاسع عشر. من هنا شهرته في أُسلوب الترقيط أَو التنقيط، وهو ما تفرَّد به بين رعيل جيله. ولوحته “بعد ظهر الأَحد في جزيرة جاتْ” (1886)، وهي اشتهرت بشكلها الذي يشبه المركب السائر هادئًا في نهر السين الباريسي، يعتبرها النقاد بين أَكثر الأَعمال تمثيلًا الثقافةَ التشكيلية الفرنسية في الربع الأَخير من القرن التاسع عشر، خصوصًا في باريس ومحيطها. وهذه اللوحة بالذات تمثِّل أَفضل تصوير طبيعي لحديقة عامة، لأَن فيها تفاصيلَ تدل على الحياة الاجتماعية في تلك الفترة.
2. الفرنسي كلود مونيه: حديقة مونسُو العامة في باريس
هذه اللوحة هي واحدة من ثلاث وضعها كلود مونيه (1840-1926) لهذه الحديقة العامة في ربيع 1876. وهي حديقة شهيرة في باريس، دشنها نابوليون الثالث سنة 1861، صمَّمَها المهندسون بطلب من فيليب دورليان على الطراز الإِنكليزي. يحيط بها حي سكنيٌّ راقٍ مشكَّل من أَبنية جميلة الهندسة. وضعها مونيه في زاوية من الحديقة ليُظهر ما يحيط بها من خُضرة جميلةٍ، وعرضها سنة 1877 في معرض الانطباعيين فلاقت نجاحًا واسعًا وشكَّلت محطة ركيزة في تاريخ الفن الانطباعي.
3. الفرنسي كميل بيسارُّو: الهايد بارك
الفرنسي من أَصل دانماركي كميل بيسارُّو (1830-1903) يُعتَبَر من مؤَسسي التيار الانطباعي، ومعظم أَعماله تركَّزت على المناظر الطبيعية. وكما جميع زملائه وأَترابه الرسامين، كان يصر على وضع لوحاته مباشرة في الطبيعة خارجًا، عوضَ وضع مخطَّطات لها في الطبيعة ثم إِكمالها في محترفه. وهذه اللوحة، “الهايد بارك” وضعها سنة 1890 وكان في المرحلة الأَخيرة من نتاجه الفني، رسمها مباشرةً في تلك الحديقة اللندنية الشهيرة التي أُنشئَت سنة 1536 في منطقة وسْتْمنسْتِر على عهد هنري الثامن. ومن المشهد يتضح أَنه وضعها في فترة نحو منتصف الخريف، بدليل أَن الأشجار فيها تتهيَّأُ لتعرى من أَوراقها المصفرَّة فيما يقترب منها فصل الشتاء.
4. الفرنسي أُوغست رُنوار: حديقة سان كْلُو
وهذا أَيضًا رُنوار (1841-1919) أَحد أَركان التيار الانطباعي. اشتهر ببراعته في مزج الأَلوان ومدِّها على مساحة اللوحة في حذاقة عالية، ما جعله متميِّزًا بين زملائه الانطباعيين. واشتهر كذلك بأَنه زار عددًا من المناطق الفرنسية ليلتقط هنيهاتٍ من طبيعتها في تلك المرحلة من منتصف القرن التاسع عشر. وهذه اللوحة وضعها سنة 1866 مركِّزًا فيها على تلك الناحية وما فيها من طبيعة خاصة، هي التي أَصبحت في ما بعد حديقة عامة يقصدها المئات يوميًّا من باريس وجوارها. أَما قبل ذلك، حين رسم رُنوار لوحته، فكانت تلك الناحية مكتظَّة بالشجر، لذا استطاع الرسام ببراعته استبيان بعض ما فيها من كُوى خضرة وعشب وجمال.
5. بيسارو: حديقة التويلري
يعتبر مؤَرخو الفن أَن هذه اللوحة من أَبرز الأَعمال التي التقطَت هنيهاتٍ طبيعيةً في حديقة عامة. وكان بيسارو في السنوات الأَخيرة من حياته (مع دُنُوّ وفاته سنة 1903) أَظهر ميلًا شديدًا إِلى جلوسه في الطبيعة والرسْم في كنفها ومحيطها القريب والبعيد. وتركَّز اهتمامه خصيصًا على بعض الحدائق العامة الباريسية. إِحدى هذه الأَخيرة، لم تكن تكرَّسَت بعدُ حديقة عامة، وهي في جوار اللوفر ومعروفة بــ”حديقة التويلري في صباح ربيعي”، رسمها بيسارو سنة 1899 من مكان مرتفع فخلَّد ما فيها لتاريخ المدينة، إِذ بيَّن جمال الأَشجار المزْهرة وزوارها المتنعِّمين بجمال الربيع فيها.
في الجزء المقبل خمسة رسامين آخرين وخمس حدائق عامة بريشاتهم.