مسرح كركلَّا شاهدًا وسفيرًا (1 من 2)
“كان يا ما كان”: آخر عمل قبل الجولة العالمية
بعد تسع سنوات (2014 – 2023) من غياب عبدالحليم كركلَّا عن مسرحه الدائم في بيروت (مُجَمَّع “إيفوار”، منطقة سن الفيل، شماليّ العاصمة اللبنانية)، ها هو عاد إِلى بيته الأَول، إِلى بيروته الغالية، إِلى لبنانه الأَغلى، بعمل مجدَّدٍ ونابض بالتاريخ كما بالعادات والتقاليد اللبنانية الأَصيلة ذاتِ القيَم والمبادئ والأَخلاق: “فينيقيا أَمس واليوم”، وأَخذ يستقطب جمهورًا حاشدًا يتهافت على شبَّاك التذاكر ليحجز مقاعده قبل أَن تنفد.
غير أَن غيابه تسع سنوات لم يكن راكدًا، بل حافلًا بأَعمال حملها إِلى أَفخم المسارح شرقًا وغربًا، سفيرًا ثقافيًّا لبلاده إِلى العالم، وشاهدًا على تراث بلاده العريق الفولكلور والـمُواكب العصر في آن.
كركلَّا السفير
يحمل كركلَّا في ذاكرة أَعماله أَكثرَ من نصف قرن (1968- 2023) شهاداتٍ مُشَرِّفةً ساطعةً في الصحافة العالمية، بينها “مسرح كركلَّا يكسفُ ما اعتادَ مسرح “كيندي سنتر” أَن يقدِّمه” (“الواشنطن بوست” – 2 آذار/مارس 2009)، وقبْلَها: “مسرح كركلَّا تخطَّى مسرح موريس بيجار” (“الصنداي تلغراف” – لندن – 16 شباط/فبراير 2003)، ذلك أَن عبدالحليم كركلَّا منذُورٌ لاثنَين: النجاح المتواصل، وصورة لبنان الإِبداع في العالم.
وكان مسرح كركلَّا قدَّم عروضه على أَرقى المسارح ودُور الأُوبرا العالمية، أَهمُّها في الولايات المتحدة: “كنيدي سنتر” (واشنطن)، “كارنِغي هول” (نيويورك)، مهرجان “سپُولِتّو” (شارلستون-كارولاينا الجنوبية)، وفي لندن: “سادل ويلز” و”الكولوزيوم”، وفي بكين: “دار الأُوبرا (NCPA)”، وفي باريس: “مسرح الشانزليزيه”، قصر المؤْتمرات، “الأُولمبيا”، وفي البرازيل: دار “أُوبرا ريو دي جانيرو” وساو باولو، وأُوساكا اليابان، والأُوبرا السلطانية – مسقط، ودار أُوبرا فرانكفورت، وفي المملكة العربية السعودية: “مسرح المرايا” – مدينة العلا، ومسرح جامعة الأَميرة نورة- الرياض والمسرح الكبير في جدَّة، وفي الإِمارات العربية المتحدة: مدينة دبي للإِعلام، المسرح الوطني في أَبوظبي، وفي الكويت: مركز الشيخ جابر الأَحمد الثقافي، وفي الأُردن: مسرح قصر الثقافة، وجولات أُخرى على مسارح إِيطاليا وروسيا ومسارح العواصم العربية.
وكان عبد الحليم كركلَّا، قبل أَكثر من نصف قرن، أَسَّس مسرحه مزاوجًا في أُسلوبه الراقص بين تراثِ الشرق العربي وتقنية الفن المعاصر المستوحاة من مبادئ أَرستْها مارثا غراهام، لتوطيد معالم إِبداعية جديدة أَعلنَت بداية تحوُّل نوعي في المسرح العربي الراقص.
من المطالع: مع عاصي الرحباني في بعلبك
كركلَّا وذاكرة المسرح الراقص
في تجربته المسرحية الطويلة، تماهى كركلَّا عميقًا مع مفهوم الإِبداع، فخلُصَ إِلى أَنه “إِحدى صفات العقل والإِلهام والفلسفة، وجوهر الصلة بين الذاكرة والخيال وخلْق اللاملموس، وأَحيانًا بإِيجاد ما هو غير موجود (وهذا هو الخيال الروائي). فعملية الخلْق هذه هي دومًا من صنع العلماء والفنانين والشعراء والمبدعين”. من هنا يجد أَن “عالَمًا خاليًا من المسرح هو عالم بائس شديد الجفاف. فكيف نتخيَّل شكل العالم بدون مسرح يحمل في مضمونه رؤًى ترتقي بالوعي المجتمعي، لنعيش مع الفرح والدهشة في مساحة من الجمال والترويح عن النفس. فكلّ ما يتصل بوجودنا في مسيرتنا الحضارية وبتطلعات الإِنسان إِلى عالم أَجمل، ينطلق من فضاء الحرية بالتعبير وبإِحياء قصص التاريخ والأَساطير”.
انطلاقًا من هذا المعطى، يرى عبدالحليم كركلَّا أَنْ “لو عُدنا بالتاريخ خمسمائة سنة إِلى الماضي، لَوجدنا أَنْ لم يكُن في المدن العالمية أَيُّ مسرح. فالتاريخ المسرحي ابتدأَ منذ اليونان والرومان، ولا تزال مدرَّجاتهم حتى اليوم تُستعمَل للحفلات والمهرجانات، ولها جمهورها العالمي، منها في إِيطاليا (Arena di Verona) في روما، و(Taormina) في صقلية، وفي سوريا “بصرى أَسكيشام” وفي ليبيا وتركيا وغيرها من المدارج التاريخية اليونانية والرومانية حول العالم”.
ملاحظات المايسترو في بعلبك قبل العرض
أَعلام في مرحلة التـأْسيس
نسترجع معه فترةً سطعت بأَعمال فنية للمسرح الراقص، فنفهم أَكثر كيف “تطوَّرَت مسيرة المسرح الراقص منذ ظهور أَول فرقة محترفة Ballet Russe (1909) انطلَقت من باريس بإِدارة المدير الفني سيرغي دياغيليف (1872-1929) ونجم الباليه فاسلاف نيجينسكي (1889-1950). كانت الكوريغرافيا في بداياتها بسيطة جدًا، تمامًا كما تقابلها عصرذاك بداية صناعة السيارات وأَشهرها “فورد أَبو دعسة”. وفي فرنسا سطعت نجمة الباليه زيزي جانمير (1924-2020) تتأَلق مع كوريغرافيِّها الشهير رولان بُتي (1924-2011). وفي أَميركا ظهر أَول رجل يرقص على المسرح: فْرِد أَستير (1899-1987)، ثم النجم يوجين كوران كيللي (1912-1996)، والنجمة العالمية جينجر رودجر (1911-1995)”.
وأَخذت تروج المسارح الراقصة، وتتأَسس الفرق العالمية، إِلى أَن أَطلت “معجزة الفن الحديث مارتا غراهام (1894-1991) النجمة الأَميركية التي أوجدت أَبجدية للرقص وتقنية الفن المعاصر الراقص”. وأُتيحت لعبدالحليم كركلَّا فرصةُ أَن يُنجز شهادة الماجستير في الكوريغرفيا من لندن لدى معهد London School of Contemporary Dance الذي تأَسس (سنة 1966) على مبادئ مارتا غراهام وأُسلوبها الفذ المتجدد.
الفضل للإِرث
مع أُولئك الأَعلام عَبَرَ الإِرث الحضاري عبر أَزمنة متعاقبة مع فنانين ومخرجين وأُدباء كبار كان لهم دور طليعي في نهضة مجتمعاتهم، فبقيت أَعمالهم خالدة في ذاكرة التاريخ، بما تحمل من جمال وإِبداع ورسالة إِنسانية كموروث للبشرية والتطوُّر الحضاري في حياة الشعوب في جميع الفنون الدرامية والكوميدية والأُوبرالية ومسرح الباليه الكلاسيكي، والحديث، والميوزيكال.
بهذا الإِرث الفني عاد عبدالحليم كركلَّا من دراسته في لندن، مزوَّدًا بثقافة أَكاديمية وموهبة طليعية، فبدأَ في بعلبك مع الأَخوين رحباني في مسرحية “إِيام فخر الدين” (1966)، وتواصَلَ معهما بعدذاك في “ناطورة المفاتيح” فــ”قصيدة حب”، فيما كان أَسس فرقته الخاصة مشترطًا أَلّا يكون الرقص مجرد “كومبارس” يصاحب الغناء، فكانت فيروز تقف في حيز بارز من المسرح فيما فرقة الرقص منفردةً تؤَدي لوحاتها الكوريغرافية.
ماذا عن كركلَّا بعد تركيز فرقته ومسرحه وأُسلوبه؟
هذا ما أُعالجه في الجزء المقبل من هذا المقال.