صدى الأَنهار بريشاتهم (1 من 2)
وليم تورنِر: “السفينة الحربية تيميرير”
لا أَعرف مَن مِن الشعراء العرب تناول النهر مادةً للقصيدة، إِلَّا ميخائيل نعيمه في قصيدته الشهيرة “النهر المتجمد” التي كتبها بالروسية ثم ترجمها إلى العربية. عسى أَن يفيدنا من يعرف بذلك أَكثر.
ولا أَعرف مَن مِن الفنانين العرب تناول النهر مادة للَّوحة، لكنَّ بينهم حتمًا من تناوَلَه. أَمَّا عن تناوُل رسامين غربيين النهرَ موضوع لوحاتهم، فعسى قراء “النهار العربي” يعالجون هذا الموضوع فينفعوننا به.
كان الماء، منذ العصور السحيقة، ينبوعًا خصيبًا للحياة لدى الشعوب. ولذا قامت المدن الكبرى على ضفاف الأَنهار لغايات التجارة والمأْكل وعددٍ من الخدمات الأُخرى التي تُسهم في حضارة الشعوب. وكثيرًا ما وعى الفنانون أَهمية الأَنهار في حياة السكان، فرسموا النهر بعلاقته مع الناس في أَحوالهم المختلفة، وفق حالات خاصة مباشرة من الواقع أَو من صفحات التاريخ.
هذا المقال عن عشرة رسامين غربيين، سأَقسمُه إِلى جزءَين، أَتناول في كل جزءٍ خمسةً منهم.
1. الإِنكليزيّ وليم تورنُر: السفينة الحربية “تيميرير”
هو (1755-1851) من أَبرز رسامي عصره. اشتُهر برسم المناظر والمواضيع البحرية، مما كان عصرئذٍ جزءًا رئيسًا من التيار الرومنطيقي في أَواخر القرن الثامن عشر والعقدَين الأَوَّلَين من التاسع عشر. من هنا كثرة لوحاته عن البحر والأَنهار. وبين أَشهرها على الإِطلاق لوحتُه “السفينة الحربية تيميرير” (1839) رسم فيها سفينة “تيميري” الحربية بريطانية (وعليها 98 مدفعًا) إِبان الحرب الشرسة بين إِسبانيا وفرنسا في المرحلة النابوليونية. و”تيميري” كانت إِحدى آخر السفُن التي كان لها حضور قوي سنة 1805 في معركة ترافالغار (كلمة إِسبانية أَصلُها عربي: “طرف الغار”). وتبدو إِلى جانب السفينة قاطرةٌ بُخَارية جاءت تقطر السفينة الكبرى من مكانها وسط نهر التايمز إِلى حيث يتمُّ تفكيكُها. وتعتبر لوحة تورنُر شاهدةً على غروب السفينة في آخر أَيامها بعدما باتت غير صالحة للحرب حيال نشوء سفن حديثة عصرذاك.
2. الأَميركي توماس كول: قرن الثَور
هذا الرسام (1801-1848) اشتهر في النصف الأَول من القرن التاسع عشر بلوحاته عن المناظر الطبيعية، وبرز في كونه رائد تيار “نهر هدسون” الشعبي في الرسم (موجة تشكيلية متأَثِّرة بالحركة الرومنطيقية وتركَّزت على نهر الهدسون وما يحيط به من بلدات وجبال بيضاء). برز كول رومنطيقيًّا بارعًا في رسم الطبيعة، ومن أَبرز أَعماله لوحة “قرن الثور” (1836) رسمَ فيها ناحيةً برية متعرجة كقرن الثور، نائيةً في البقعة التي باتت لاحقًا منطقة جميلةً من ولاية كونيتيكت. وتعتبر هذه اللوحة رمزًا كلاسيكيًّا لتيار “نهر الهدسون” الذي حلَّ عكس ما كان سائدًا عصرئذٍ في التيارات التشكيلية الأوروبية. واللوحة تُظهر منظرًا جميلًا من جبل هوليوك (في نورثامبتون – ولاية ماساشوستس) يشرف على وادي نهر كونيتيكت بعد عاصفة شرسة. لذا اعتُبرت اللوحة فاصلًا بين الطبيعة البكر والحضارة العمرانية.
3. الأَميركي أَلبرت بيرشتات: وادي يوسْميتْ
هذا الرسام (1830-1902) أَلماني الأَصل (هاجر والداه إِلى أَميركا وهو طفل في العام الأَول من عمره). كان عضوًا في تيار “نهر الهدسون” الذي ظل رائجًا حتى السنوات الأَخيرة من القرن التاسع عشر. ويعتبر أَهم رسَّام المناظر في تاريخ أَميركا التشكيلي. في لوحته “وادي يوسْميتْ” (1864) رسَم ذاك الوادي المهيب في كاليفورنيا، وفوقه جبالٌ من الغرانيت، إِبَّان أَول مرحلة من نزوح الناس إِليه وابتناء المساكن. فالبُقعة حينذاك كانت من أَبرز المناطق البرية في قارة أميركا الشمالية، أَطلعها بيرشتات هادئة هانئة، مع انهمار أَشعة الشمس على النهر وانعكاس قمم الجبال على صفحته، في لحظات دقيقة تُظهر براعة الفنان في رسم التفاصيل الصعبة.
أَلبرت بيرشتات: “وادي يوسْميت”
4. الإِنكليزي جون كونسْتابْل: عجلة التبن
يعتبر جون كونستابل (1776-1837) بين أَبرز الرسامين الإِنكليز برسم المناظر الطبيعية في القرن التاسع عشر. اشتهر برسمه مناظر من الريف الإِنكليزي، وفي بعضها غيومٌ سُود وسْع الفضاء. وبين أَبرز أَعماله ما رسَم فيها أَنهرًا في إِنكلترا، أَشهرها مشاهدُ من نهر سْتُور (شرقي إِنكلترا – طوله 47 كلم). في لوحته “عربة التبن” (1821) رسَم مُزارعًا وثلاثة أَحصنة تجر عربةً ملأَى بالتبن تَعبر النهر إِلى كوخ صغير في الضفة الأُخرى. ويرى النقاد أَنها أَبرز ممثل لمنظر طبيعي في المرحلة الرومنطيقية… واللافت أَن الكوخ (ويلي سْكُوتّ) المبني في القرن السادس عشر ما زال حتى اليوم (تمَّ ترميمُه سنة 1920) في سوفُّوك (شرقي إِنكْليا)، حوفظَ عليه لأَن كونستابل خلَّده في عدد من لوحاته.
5. الأَميركي إيمانويل لوْتْز: واشنطن يعبر نهر دلاوير
هو الآخر أَلْماني الأَصل (1816-1886) هاجر إِلى أَميركا في مطلع القرن التاسع عشر. ركَّز في أَعماله على مواضيع تاريخية في لوحات كبيرة الحجم، بعضُها عن معارك أَو أَحداث صاخبة كبرى، ما جعل لوحاته ركائز في تاريخ أَميركا الفني.
في لوحته “واشنطن يعبر نهر دلاوير” (1851) رسم مشهدًا حدَث قبل 75 سنة من تاريخ اللوحة. وهي استذكارٌ للحدث الذي أَدَّى إِلى نجاح القوات الأَميركية ضد البريطانيين إِذ قاد واشنطن جنودَه عبر نهر دولاوير عشية الميلاد، وصباحًا كان اجتاح القوات المعادية في تْرِنْتُون (ولاية نيوجرزي). ويَظهر في اللوحة جورج واشنطن واقفًا عند مقدِّمة المركب متطلِّعًا إِلى الشاطئ فيما المركب يجتاز النهر المثلَّج بالصقيع، ووراءه يقف الضابط جيمس مونرو حاملًا العلَم الأَميركي. من هنا أَنَّ اللوحة تمجيدٌ عبُورَ واشنطن النهرَ ليلة الميلاد 1776 إِبان حرب استقلال الولايات المتحدة في مرحلتها الأُولى من الهجوم المفاجئ الذي به باغتَ واشنطن قوات العدو الأَلمانية في تْرِنْتُون.
إِيمانويل لوتْس: “واشنطن يعبُرُ نهر دولاوير”