حدائقُهم بريشاتهم (1 من 2)
هيرونيموس بوش: “حديقة المسرَّات الأَرضية”
في تقليد الفن التشكيلي أَن يضع الرسام لوحةً عن وجهه وهو أَمام المرآة أَو أَمام صورة له، فتكون لوحتُه رسمًا ذاتيًا كثيرًا ما تابعناه لدى كبار الرسامين العالَميين.
وفي التقليد التشكيلي أَيضًا أَن يضع الرسام لوحات عن بيته أَو زوايا خاصة في بيته، وهو ما وجدناه أَيضًا لدى عدد من الرسامين.
غير أَن حديقة الرسام نادرًا ما وجدناها بين أَعماله، لذا تركَها رسامون معدودون لِلَوحات مبدعة وضعُوها حين في حديقتهم ما يعني لهم بين زاوية هنا، أَو ممر هناك، أَو ناحية من الحديقة محبّبة لديهم.
في هذه الحلقة الأُولى من اثنتين، أَعرضُ لخمس لوحات لخمسة رسامين تركوا ريشتهم تتنقَّل في زوايا حميمة أَو خاصة من حديقتهم أو حديقة تعنيهم. وأَترك الخمس الأُخرى للحلقة المقبلة.
1.الهولندي هيرونيموس بوش Bosch: (1450-1516)، هو أَبرز رسَّامي المدرسة الهولندية القديمة في القرن الخامس عشر. معظم أَعماله زيتيات على خشب السنديان. تراوحَت لوحاته بين المناظر والمواضيع الدينية. لوحتُه هنا “حديقة المسرّات الأَرضية” جعلَها من ثلاثة أَجزاء متلاصقة (الأَوسط كبير والطرفان متساويان) رسم فيها ثلاثة مشاهد مختلفة من ثلاث حدائق مختلفة لهدف شاءَه ذا رسالة أَخلاقية. وضع اللوحة بين 1490 و1500 وجعل في كل جزء منها قصة خاصة بأَشخاص ذوي ملامح شبه سوريالية. في الجزء الأَيمن رسَم الجحيم وفيه قدَر البشرية المتراوح بين اللذة والشهوة. في الجزء الأَيسَر رسَم الفردوس وفيه آدم وحواء في وضعية توحي بالحب الجسدي. وفي الجزء الأَوسط رسَم مسرات ولذائذ في وضعيات برية يمثلها أَشخاص في وضعيات مختلفة من الجرأَة الجسدية الغائصة في حمْأَة الخطيئة. وعند إِغلاق الجزءين الجانبيَّيْن يبدو منظر الأَرض في اليوم الثالث من سفر التكوين. واللوحة حاليًّا في متحف برادو (مدريد) وتُعتَبَر من أَهم الأَعمال في هذا المتحف.
2. الفرنسي كلود مونيه (1840-1926)، وهو مؤَسس التيار الانطباعي في عصره، خصوصًا برسمه الطبيعةَ على طريقته الخاصة وبأُسلوبه المميَّز. ولوحتُه “حديقتي” (1900) رسم فيها ناحية خاصة من حديقته خلف منزله في مدينة جيفرني حيث عاش معظم السنوات الأَخيرة من حياته هادئًا هانئًا يرسم ما تلتقط ريشته في محيطه من تلك الضاحية الباريسية الجميلة.
ومن أَجل أَن يوجِد جوًّا جماليًّا لحديقته، زرعها أَعدادًا منوعة من الزهر والصفصاف الباكي، وجعل فيها جسرًا خشبيًّا وبرُكْةَ صغيرة، فكان له هذا المشهد موضوعًا دائمًا لعدد من لوحاته في زوايا مختلفة ظهرت أَحيانًا على ريشته في مناخ من الأَزرق والأَحمر والأرجواني وباقات من السوسن، ما يشير إِلى شغفه بجمال الطبيعة وما فيها من تنوُّع، وغالبًا ما اعتمد الأَبيض والأَزرق في خلفية اللوحة وتبدو فيها ملامح منزله التي يتصدَّر الحديقة.
3. الإِنكليزي جون كونسْتابْل (1776-1837): هو من أَبرز ممثِّلي المرحلة الرومنسية. أثَّر في معاصريه بأُسلوبه الخاص في رسم المناظر، واعتُبر عصرئذٍ هذا الأُسلوب ثوريًا. في لوحته هذه “الحديقة المزهرة” (1815) رسَم حديقة والده في مدينة سوفُّوك، مستخدمًا تنقيطًا خاصًّا في زرع أَلوانه لإِظهار ملامح الأَزهار. ومن أَجل التركيز على هذا المنحى لديه كتب يومًا: “عليَّ أَن أَرسم أَماكني الخاصة بأَبرعَ ما تعطي ريشتي”. ومن شغَفه بأَماكنه، أَشرق بأَلوانه عبر الحقول والفضاء الساطع المتماوج بالغيوم لإِظهار الجو الهادئ المطمئنّ في تلك الناحية الإِنكليزية الريفية من البلاد.
جون كونْسْتابْل: “الحديقة المزْهرة”
4. الهولندي فان غوخ (1853-1890): من شدة تأثُّره برسام المناظر الطبيعية الفرنسي دوبـيـنـيـي (1817-1878)، وضع في مطلع 1890 ثلاث لوحات لبيت دوبينيي وحديقته حين زاره في البلدة الفرنسية الصغيرة “أُوفير سور واز” (بعيدة قليلًا عن باريس). وإِذ لم تكن لديه قماشة بيضاء للرسم ذات يوم، رسم اللوحة الأُولى على منشفة شاي (هي اليوم في متحفه)، ثم وضَع لوحتَين أُخريَين كبيرتَين على قماشة بيضاء كانت توفرَت له. توفي عامئذٍ في بيت دوبينيي، ويمكن اعتبار تلك اللوحات الثلاث من آخر ما أَنتجت ريشتُه.
5: الأَلماني إِميل نُولْدِه (1867-1956): هو أَحد أَبرز التعبيريين في المدرسة الأَلمانية الدانماركية للرسم، وكان من أَوائل الذين في مطلع القرن العشرين استخدموا الأَلوان الزيتية والمائية، وبرع فيها منوِّعًا ورائدًا في اختيار الأَلوان. كان إِميل وزوجتُه آدا سكنا سنة 1903 قرية نوتْسْماركوف في جزيرة آلْسِن النروجية الصغيرة. ومن هناك أَخذ يرسم الطبيعة الساحرة الهادئة في محيطه. وهو جعل حديقته أَغلى الأَماكن المحببة لديه، ورسم عددًا من لوحاته عنها ومنها سنة 1908. وتدل أَلوانه المتماوجة بين الأَحمر والأُرجواني والفيروزي على شغفه بزوغة الأَلوان في الطبيعة حوله. وبين طرائف ما في لوحته “الحديقة المزهرة” (1908) رسْمُهُ زوجته آدا في خلفية اللوحة تنشر الغسيل، وفي سائر اللوحة جو من الهدوء والصفاء تحت شمس الصيف الدافئة.
في الحلقة المقبلة أَعرض للرسامين الخمسة الباقين ولوحاتهم الخمس.