25 أيلول 2007 العدد 12328 السنة 36
جاء وقتٌ كان خائناً فيه (أو “شوفينياً” أو “متعصّباً” أو “انعزالياً”) كلُّ من يقول بـ”لبنان اللبناني أولاً”، على أنه “يَخون العروبة والقومية والأمة العربية”.
وعبثاً كان “ضحايا” الاتّهام يوضِحُون أن تَمَسُّكهم بـ”لبنان اللبناني” أو “لبنان أولاً” لا يعني أنهم يريدون لبنان جزيرة أو معزولاً أو شوكة في خاصرة جيرانه أو المنطقة، بل أن تكون هويتُه الذاتية وجهَه في لقاء الآخرين، فيا تعاسة من لا وجه ذاتياً له ولا صوت ذاتياً ولا شخصية ذاتية، لأنه يكون حبّة في سبحة أو نقطة في بحر أو شعرة في ذيل.
الانتماء الى الوسط والمحيط لا يعني نفي الخصوصية ولا تذويب الكيان ولا إلغاء الـ”أنا” للانتماء الى السوى.
الفرنسي يباهي بفرنسيته قبل كلّ شيء. فرنساهُ أولاً ثم أوروبا. ولن يرضى فرنسي أن ينادى به أوروبياً قبل أن يكون فرنسياً. والكويتي يباهي بكويتيّته قبل كل شيء. كُوَيتُهُ أولاً ثم المحيط. ولن يرضى كويتيٌّ، مهما كان ليبرالياً ومنفتحاً وديمقراطياً ومتنوّراً و”قومياً”، أن ينادى به خليجياً أو عربياً أو شرقياً قبل أن يكون كويتياً.
مع ذلك، ومع كل هذه البداهة، كان في لبنان لبنانيون (مواطنون وسياسيون وقادة) ينادون بغير لبنان قبل لبنان، وينتمون الى “قوميات” و”أُمَميّات” وهويات غير لبنانية، يتباهون بها ويتظاهرون لأجلها. وكم كانت شوارع بيروت وأماكنها العامة تنوء تحت ضربات التكسير والتحطيم والتلف والضرر الشديد، في سبيل قضية لا علاقة للبنان بها، لمجرد أنّ المتظاهرين قوميون أو أمَميُّون أو مناصرو هذا البلد أو ذاك أو هذه القضية أو تلك، مِما لم يكن لبنان جزءاً من قضيّته ولا من أحداثه.
ومع ذلك، كلما كان يشتدُّ الخناق، كان أولئك المتبرعون باعتناق انتماءات أخرى غير لبنانية يهرعون الى الدولة يطالبونها أو يلجأون إليها أو يرجونها مساعدة أو تدخُّلاً. كانوا ينكرون البيت، وحين يداهمهم البرد أو المطر يلجأون تحت سقف البيت.
الى أن كان ما كان في السنوات الأخيرة، واكتشف هؤلاء أن لا بيت لهم سوى لبنان، ولا حماية لهم غير لبنان، ولا أرض لهم إلا لبنان، ولم “يأوِهم” أحد في ساعة الصفر، فهرعوا تائبين ينادون بـ”لبنان أوّلاً” وينتمون الى لبنان “اللبناني أولاً” ويصيحون بأن لبنان “فوق كل اعتبار” وبأنه “وطن نهائي” وبأن لا خيار للبنانيين إلاّ الوفاق في ما بينهم، الى آخر عبارات الانتماء الى لبنان الذي، حين كنا ننادي به “لبنانياً أولاً” قبل أيّ وطن آخر أو هوية أخرى أو انتماء آخر، كانوا يتهموننا بالتعصُّب والشوفينية المحلية الضيِّقة والانعزالية العمياء. وما زلنا نؤمن بأنْ لن ينقذ لبنان إلاّ إيمان جميع أبنائه حتى يقولوا بـ”لبنان أولاً”.
كل كيان، في أيّ بلد في العالم، اصطلاحي (ولو كانت له حدود طبيعية أو تضاريس طبيعية حددت أرضه) وتالياً يتبنى المجتمع الدولي هذا الكيان الاصطلاحي الذي يُقرّ به أبناؤُه على أنه “وطنهم”، به يؤمنون، له يعملون، ومنه ينطلقون الى المحيط فالعالم الأوسع. ومن يُذيب كيان وطنه بكيانات أوسع أو أبعد، سيلفظه الأوسع والأبعد ذات يوم ويعود تائباً الى كيانه الأب.
بهذا المنطق نرى لبنان: كياناً حضارياً قدَرُه، منذ كان، أن يشع على الجوار والمحيط مغايراً لافتاً مبدعاً، وأن يصرّ عليه المحيط مغايراً لافتاً مبدعاً، إلاّ لدى الذين يكسف نور المنارة أشباحهم الليلية المظلمة التي تعتبر النور عدواً مهدِّداً، فيعملون على اغتياله.
____________________________________________________________________________
(يصدر في جريدة “القبس” الكويتية – الثلثاء 25 أيلول – صفحة “كُتّاب وآراء” – في زاويتي الأسبوعية “قبَس من لبنان”)