ماري كوري ذاتُ الـ”نوبل” مرَّتين
ماري كوري في مختبرها (1908)
في تاريخ العلْم أَنّ ماري كوري (1867-1934) هي أَشهرُ امرأَة عالِمة في العالَم، وأَنها أَهمُّ سيدة حقَّقت للعلْم إِنجازاتٍ مفيدةً تَطَوُّرَ البشرية. منذ مطلع صباها راحت تناضل بقوَّةٍ ضد مبدإِ منْع المرأَة من دخول الجامعة. ونجحَت في عنادها ومثابرتها لا بدخولها الجامعة فقط بل بحيازتها مرَّتين جائزة “نوبل للعُلُوم”، ومراتٍ عدَّةً نالت أَلقابَ شرفٍ وعضوياتٍ عليا وجوائزَ كثيرةً طوال حياتها.
فماذا عن هذه المرأَة المفردة في التاريخ؟
هي
وُلِدَت البولونية ماريَّا شْلُودوفْسْكا في العاصمة وارسو سنة 1867، عهْدَ كانت بولونيا جُزءًا من الأَمبراطورية الروسية التي كانت تُحَرِّمُ تعليم الفتيات. لكنَّ والدَها زرع فيها حب العلوم، فانتسبَت سِرِّيًّا إِلى كلية جامعية بولونية خاصة. وسنة 1891 انتقلت إِلى باريس تُواصل تحصيلَها الجامعي في السوربون ونالت منها شهادة الدكتوراه في الفيزياء وعلوم الرياضيات. وهناك كان أَستاذُها في الفيزياء العالِمُ بيار كوري، فتَحابَّا وتزوَّجا ليُكوِّنا ثنائيًّا علْميًّا، عَمِلا معًا، خصوصًا على اختبارات العلْم الإِشعاعي الذي كان اكتشَفَهُ سنة 1896 العالِمُ الفرنسي هنري بِكِريلّ Becquerel (1852-1908).
مع زوجها بيار (1903) سنة نيلهما جائزة”نوبل”
اكتشاف العنصُرَين
بعد عملهما فترةً على النشاط الإِشعاعي تَوَصَّلا إِلى اكتشاف عنصُرَين: الراديوم، والبولونيوم (سمَّيَاهُ هكذا إِكرامًا لبلد ماريَّا). وعلى هذا الاكتشاف نالا جائزة نوبل للفيزياء سنة 1903 مناصفَةً مع هنري بِكِريلّ.
توفي بيار كوري (1859-1906) بحادث مفاجئ إِذ كان يجتاز شارع دوفين في باريس ذات نهار كثيفِ المطر فصَدَمَتْهُ عربةٌ يجرها حصان ومرّ دولاب العربة على رأْسه فكسَر جمجمتَه ومات على الفور. وكان أَصلًا يعاني من عوارضِ وهْنٍ بسبب عمله اليومي على إِشعاعات الراديوم، وفيها سُمُومٌ للرئتَين وتؤثِّر على صفاء الدماغ.
واصلت ماري اختباراتها نحو ثلاثين سنة بعد وفاة زوجها، موغلةً في اكتشافاتها “الإِشعاعية” التي كانت لها فائدةٌ كبرى في الحقل الطبّي. ذلك أَنها طوَّرَت التصوير الشعاعي الذي أَفاد كثيرًا في معالجة الجنود جرحى الحرب من كسُور ورُضوض إِبان الحرب العالمية الأُولى.
زياراتها المرضى
لم تكتفِ ماري بالعمل داخلَ مختبرها، بل كانت تنتقل لزيارة المرضى في بيوتهم، سائقةً سيارةً خاصة بها مجهزةً بآلات التصوير الشُعاعي. ذاع صيتُها بين أَقرانها من أَهل العلْم، وباتت تُدعى إِلى محاضرات علمية وندوات متخصصة، منها مؤْتمر علمي سنة 1927 نظّمتْهُ شركة “سولفاي” للمواد الكيماوية البلجيكية (أَسسها إِرنست سولفاي في بروكسل سنة 1863) وكان بين المشاركين في المؤْتمر أَلبرت آينتشتاين، وماري المرأَة الوحيدة بين أَعضاء المؤْتمر.
وكأَنما جائزة نوبل واحدة لم تكن تكفيها، فنالتها ثانيةً سنة 1911 عن اكتشافاتها في الكيمياء، وبذلك كانت المرأَة الأُولى والوحيدة في نيلها مرَّتين عن عِلْمَين مختلفَين.
سنة نالت جائزة نوبل الثانية (1911)
ماري أُمًّا
كانت ماري أُمًّا لابنتَين: إِيرين وإِيفا، فاهتمَّت كثيرًا بتربيتهما واعتنَت بتوجيهما إِلى الحقل العلْمي بالرغم من انشغالاتها الدائمة ومواعيدها في المختبر وخارجه. وحين ابنتُها الكبرى إِيرين بلغَت سن الصبا أَخذَت تتدرَّب مع أُمها في المختبر، وخصوصًا بعد إِنشاء “مؤَسسة الراديوم” في باريس (أَسستْها لها جامعة باريس ومؤَسسة باستور سنة 1909) فكانت متَّسعًا لماري كي تُجري فيها اختباراتها الفيزيائية والكيميائية. وسنة 1920 تحوَّل اسمُها إِلى “مؤَسسة كوري”.
سلالة كوري العلْمية
سنة 1934 توفيَت ماري كوري بفقر الدم سبَّبَهُ تعرُّضُها الدائم للإِشعاعات السامَّة. لكنها لا تزال حتى اليوم مثالًا لآلاف الصبايا اللواتي يملْن إِلى العمل في الحقل العلمي. وهي كانت مع زوجها بيار أَسَّست عائلة علمية وُثقى، فابنتها إِيرين (1897-1956) عملَت على اكتشاف منحًى جديد في التلاؤُم الإِشعاعي نالت عليه جائزة “نوبل للكيمياء” سنة 1938 مناصَفةً مع زوجها العالِم الفرنسي فْرِدِريك جوليو (1900-1958). وأَنجبَت إِيرين ولَدَين: هلِن وبيار أَصبحا لاحقًا عالِمَين في الفيزياء النووية والبيولوجيا.
أَما ابنةُ ماري الصغرى إِيفا (1904-2007) فاختارت حقلًا بعيدًا عن العلْم هو عالَـمُ الإِنسانيات والعلوم الاجتماعية، فأَصبحت عازفة بيانو لامعة، وكاتبة وصحافية وحتى دبلوماسية بزواجها من الأَميركي هنري لابْوِيسّ (1904-1987) السفير الأَميركي في اليونان ثم المدير التنفيذي لمنظمة الـ”يونيسيف”. سوى أَنها، إِذ ابتعدت عن حقل أُمها علْميًّا ، لم تبتعد عن أُمِّها حياتيًّا فوضعَت سنة 1938 سيرة موسَّعة لأُمها بعنوان “مدام كوري”، سرعان ما انتشرَت وتُرجمَت ودخلت عالم السينما في فيلم “مدام كوري” أَنتجَتْه في هوليوود شركة “متروغولدْوين ماير” سنة 1943.
مع ابنتَيْها إِيرين وإِيفا (1930)
نجمة الخُلُود
وها ماري كوري تَخْلُدُ اليوم في أَكثر من مَعْلَم: أَولًا بــ”متحف كوري” (تأَسس سنة 1934 إِثر وفاتها) ثم بموقعه في الشارع الحامل اسمها واسم زوجها: “شارع بيار وماري كوري” في الدائرة الخامسة من العاصمة باريس، على بُعد خطوات قليلة من مبنى البانتيون الذي يضُمُّ مشاهير فرنسا وبينهم بيار وماري كوري اللذان دخَل رفاتُهما البانتيون سنة 1995، وعلى مدخله العبارة الشهيرة “العظماء الخالدون تعترف بفضلِهِمِ الأُمة”.
هكذا تكرَّست ماري كوري وزوجها بيار بين عظماء فرنسا الخالدين.