الحصانُ العربي بريشاتهم الغربيَّة (1 من 2)
دولاكروى: “خروج الحصانَين من البحر”
للحصان العربي مكانة مميزة في الحضارة العربية، شعرًا ومزاولةً ولوحاتٍ فنيةً ذاتَ رموز وإِسقاطات، حتى لكأَنه بين أَكثر المواضيع تَدَاوُلًا في الأَدب والفن العربيَّيْن. وليس أَدلَّ على العلاقة به من قول عنترة بن شداد العبسي عن أَدهمه:
يدعُون عنتر والرماح كأَنها أَشطان بئرٍ في لَبان الأَدهمِ
ما زلت أَرميهم بثُغرة نحره ولَبَانه حتى تسربَلَ بالدمِ
فازْوَرَّ من وقْع القنا بلَبانه وشكا إِليّ بعَبرة وتَحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ولَكان لو علِمَ الكلامَ مُكَلِّمي
في هذا المقال من جزءَين أُعالج صورة الحصان العربي كما رسمَها فنانون غربيون معجَبون بقامة الحصان العربي، على ما في رسْم تفاصيل هيكله من صعوبة قلَّ أَن تَجَرَّأَ على مقاربتِها بنجاحٍ فنانون من الشرق والغرب.
في الاستشراق فنًّا
لم ينحصر الاستشراق على النصوص والدراسات بل تخطَّاها إلى الفن التشكيلي، فكان ما تُمكن تسميتُهُ “الفن الاستشراقي”. ومن هذا الأَخير “الاستشراق الفُروسي” للدلالة على العين التي رأَت إِلى الحصان وامتطائه والمعارك على متْنه فوجدَتْه فيها جميعها مادة خصيبةً للأَداء الفني العالي.
وكان لعدد من الكتُب والمنشورات والمجلات (منها مجلة “أَرامكو” – عدد كانون الثاني/ شباط – يناير/فبراير Aramco World – January/February 2019) أَن تُخصِّص صفحاتٍ موسَّعةً للحصان العربي بريشات فنانين غربيين. فعن جينا ماكْديرْمُوْت (مديرة متحف “المتحف” في لندن، وهو المتخصص عُمومًا بلوحات القرن التاسع عشر عن المنطقة العربية، وخصوصًا الجزيرة العربية) أَن “الفن الاستشراقي الذي يتخطَّى الحدود الثقافية في مواطنها، يقوم على رسم الحصان العربي”.
وتعود لفظة “الاستشراق” إِلى قرون مضَت، للدلالة على فن “غربي” (معظمه أُوروبي وأَميركي) عالج مواضيع من الثقافة الإِسلامية في آسيا وشمال أَفريقيا. وفي النصف الآخر من القرن العشرين، اتخذَت اللفظة معنى نقديًّا بحثيًّا تحليليًّا. سوى أَن المدلول الذي لم يتغيَّر عبر العصور كان عن الحصان العربي وأَصالته وتأْصيله. وما وصلَنا من مبدعي القرن التاسع عشر في رسمهم مشاهدَ من شمال أَفريقيا والمشرق والجزيرة العربية دلَّ على تعميقهم بها كأَنهم عاشوا فيها وعاينوها شخصيًّا.
الاهتمام بالحصان العربي
أَولُ من وعَوا على لوحات الحصان العربي واهتمُّوا بها وأَخذوا يقتنونها، كانوا أُوروبيين وأَميركيين قدَّروا صعوبة رسم الحصان وما خلْف رموزه من قِيَم عربية تجسِّد النُبل والشرَف العربيَّيْن، حتى بات رسم الحصان العربي رمزًا نوستالجيًّا محبَّبًا للعالم الغربي، إِلى أَن أَطاحت الاهتمامَ به الثورةُ الصناعية. إِنما بقي اهتمام دائمٌ به لدى أَعمال فنانين بقيَت لديهم نوستالجيا المشهد العربي وتفاصيله القبلية والبدوية والصحراوية، على ما في مدى الصحراء من عذوبة وجمال.ويتَّضح أَن أُصول الأَحصنة العربية في أَميركا الشمالية ترقى إِلى الأَحصنة الأَندلسية المتحدِّرة أُصولًا من العرب والبربر. وإِلى الأَميركيين، اتسعت هذه النوستالجيا إلى الأُوروبيين، كما مع الفرنسي دولاكروَى، وسواه ممن ينسبون أَيَّ حصان يرسمونه إِلى الحصان العربي. لذا كان هواةُ اللوحات يقْتَنُون اللوحة لمجرد أَنَّ فيها حصانًا وفارسًا في مشهد يوحي بالجزيرة العربية. وهو ما تؤَكِّده جينا ماكديرْمُوت مديرة متحف “المتحف” في لندن، وهو أَبرز مَن يمسك الرابط التشكيلي بين الشرق والغرب، ويكاد منذ سبعينات القرن الماضي يحصر مقتنياته بالحصان العربي وفرسانه ومناظره العربية.
فماذا عن الحصان العربي بريشات الغربيين؟
دولاكروى: “جمال الحصان العربي”
دولاكرى: جمالُ الحصان في ذاكرته
يرى معظم النُقَّاد أَن الفرنسي أُوجين دولاكروى (1798-1863) هو رائد الاستشراق الفني، إِذ كان يختزن في ذاكرته الثاقبة مشاهدَ نابضةً من زيارته الوحيدة إِلى شمال أَفريقيا سنة 1832. وكان قبلذاك يهوى الحيوانات في رسومه ولوحاته، وكتب عن ذلك في يومياته ذاكرًا احترامه الرومانسي الشعب العربي الذي زاره، ومما كتَب: “المغاربة أَقرب الشعوب إِلى الطبيعة في شتى مظاهرها”. من هنا كان في لوحاته أَقلَّ اهتمامًا بالحصان من حيث تفاصيل بُنْيته الجسدية ومنظره وهيئته، وأَكثر اهتمامًا بمعالمه البطولية وتأْثيرها في الـمُشاهد. ولم يكن ذلك سهوًا بل عمدًا إِذ إِنه دوَّن في يومياته بين 1850 و1854 أَن المشاهد العربية العامة في شمال أَفريقيا هي التي لَفَتَتْهُ، فلم يركِّز على التفاصيل الصغيرة في جسم الحصان، بل اهتمَّ لما حفظَ في ذاكرته ومخيلته من ملامح شاعرية ومؤثِّرة لرسم الحصان وفارسه وما يوحيه المنظر حوله عمومًا من هالة سحرية ساطعة.
دولاكروى: “حوار الفارس وحصانه”
فرومانتان: جماليا الفارس والحصان
فرنسي آخر استهواه رسم الحصان: أُوجين فرومانتان (1820-1876) لكنه، عكْس مُلْهِمه دولاكروى، راح يركِّز على التفاصيل في جسم الحصان. وهو سافر إلى المنطقة العربية ووضع كتابَين عن رحلاته وجولاته في الصحارى العربية. ومما دوَّن في كتاباته: “جَمْعُ الفارس العربي إِلى حصانه عملٌ من أَجمل وأَكمل ما خلَق الله.
وقد يعود لانشداده إِلى الحصان العربي تأْثير واضح من مُعاصره الرسام الرمزي الفرنسي غوستاف مورو (1826-1898) الذي أَطْلَع فرومانتان على أَنَّ هواة اللوحات وزبائنها باتوا مهتمِّين بلوحات الحصان أَكثر من اهتمامهم بلوحات الجمَل في الصحراء كما كان يرسمها فرومانتان. لذا راح هذا الأَخير يخفِّف من رسم الجمَل في لوحاته دون أَن ينقطع عنها مع انتقاله إِلى رسْم الحصان.
من هُم الغربيُّون الذين برَعوا كذلك في رسم الحصان العربي؟
هذا ما أَسرده في الحلقة المقبلة.