وطنٌ اسمُهُ فيروز ( 3 من 3)
فيروز
في الجزءَين الأَول والثاني من هذه الثلاثية، مهَّدتُ للكتابة عن صوت فيروز ضالعًا في الوجدان العام، وكيف كانت الأُغنية الفردية هي الوحدة الصغرى الأُولى للإِرث الرحباني.
في هذا الجزء الثالث الأَخير أَختم الثلاثية بما كان لصوت فيروز من مدى واسع بلغ المسرح والسينما وجالَ على أَكبر مسارح العالم.
تجربة مهرجان بعلبك
من وحدة الأُغنية (الجزء الثاني من هذا المقال) أَنتقل إِلى الوحدة الأُخرى في الأَدب الرحباني: المسرح.
هنا تجلَّت موهبة فيروز بالتمكُّن في الحضور رغم صعوبة المطالع. فحتى 1956 لم يكن الجمهور يعرف من فيروز إِلَّا صوتَها يصدَح سمعيًّا فائقَ العذوبة من الإِذاعة اللبنانية وإِذاعة دمشق وإِذاعة القاهرة وإِذاعة الشرق الأَدنى. حتى صورتُها في الصحافة لم تكن في التداول إِلَّا نادرًا. فما إِلَّا سنة 1953 حتى صدرَت لها صورةٌ أُولى في مجلة “الصياد”.
لذا كان من الصعوبة عليها صعودُها على المسرح، ومواجهةُ جمهور عريض تغنّي له في وقْفة مختلفة تمامًا عن وقْفتها أَمام ميكروفون الإِذاعة، حتى تمَّ ذلك، لا بدون تردُّدٍ وخجَلٍ وارتباك، ليلتَي 31 آب/أُغسطس و1 أَيلول/سپتمبر 1957 على مدرج جوپيتر في هياكل بعلبك الأَثرية.
كان افتتاحُ السهرة بأُغنية “لبنان يا أَخضر حلو” في الفصل الأَول رحبانيًّا كاملًا بعنوان “أَيام الحصاد”. يومها خصَّص المخرج صبري الشريف لهذه الأُغنية الافتتاحية موضعًا عاليًا تُطلُّ منه فيروز وسْط ضوءٍ ينهمل عليها من بعيد، فبانت كأَنها تطير في عتمة الفراغ القاتم حولها. وما زال المشهد في ذاكرة مَن حضروا تينَك الأَمسيتَين (نحو 5000 مشاهد كل ليلة)، وما زالت هذه الأُغنية حتى اليوم تتردَّد نضرةً عذبةً لا كأَنها صدرَت قبل 65 سنة.
من يومها بدأَت فيروز، بِطاقتها الموثوقة، تعتادُ على مواجهة الجمهور، فتوثَّقت وقْفتها أَكثر في الليلة اللبنانية من مهرجان بعلبك بعد صيفَين (1959) إِذ تولَّى الفصل الأَول محمد محسن، زكي ناصيف، توفيق الباشا، فيلمون وهبه، وتولَّى الأَخوان رحباني الفصل الثاني فقدَّما مشهدًا بعنوان “محاكمة”، أَدَّت فيه فيروز أُغنياتٍ ما زالت شائعةً حتى اليوم، منها: “يا قمر أَنا واياك”، “ما فيه حدا”، “يا تلال صنوبر ضيعتنا”.
من الغناء إِلى التمثيل…
غير أَن موهبة فيروز المفردة لم تتوقَّف عند حدود الوقوف غناءً خلف ميكروفون المسرح أَمام الجمهور في هياكل بعلبك، بل ارتقَت من الأَغاني المستقلَّة والحوارات الغنائية (“البعلبكية” 1961 و”جسر القمر” 1962) إِلى مطالع التمثيل (“الليل والقنديل”- كازينو لبنان 1963، “بيَّاع الخواتم”-الأَرز 1964) بلوغًا إِلى تأَلُّقها في قمم المواقف التمثيلية (“إِيام فخر الدين”- بعلبك 1966، “جبال الصوان”-بعلبك 1969 و”ناطورة المفاتيح”-بعلبك 1972).
وحين انتقل المسرح الرحباني إِلى المدينة (معظمُه على مسرح “الپيكادِلِّي”-بيروت)، سطعَت فيه فيروز ممثِّلةً مبدعة بمستوى ما هي مغنِّية مبدعة، منذ “هالة والملك” (1967) حتى “پترا” (1977) طيلة عشر سنوات مثْمرةٍ أَعمالًا مسرحيةً أَدَّتها فيروز في بيروت ودمشق وعمَّان وسواها من العواصم والمدن العربية والغربية مسجِّلةً فيها الإِبداع اللبناني رحبانيًّا وفيروزيًّا.
… إلى السينما
بعد الميكروفون فالمسرح، أَختم بالوسيطة الثالثة: فيروز في السينما.
هنا أَيضًا، بنجاح أَدائها غناءً إِفراديًّا وحواراتٍ غنائيةً وتمثيلًا مسرحيًّا نصًّا وغناءً، سطعَت فيروز في السينما ممثلةً جديرةً أَمام الكاميرا في أَدوار مركَّبة وصعبة: “ريما” في “بياع الخواتم” (1965 – إِخراج يوسف شاهين)، “عَدلى” في “سفَر برلك” (1967 – إِخراج هنري بركات) و”نجمة” في “بنت الحارس” (1968 – إِخراج هنري بركات).
وتجلَّت موهبتُها التمثيلية سينمائيًّا في لحظات من المشاهد تقْطُر انفعالًا جديرة بأَدائه ممثلاتٌ مكرّسات: لقاؤُها راجح وذهولُها أَمامه في “بياع الخواتم”، وَدَاعها المؤَثِّر خطيبَها عبدو المبْحر في جبيل مع الثوَّار في ختام “سفر برلك”: “محروسين بالبحر، ومهما بعَّدوكُن، أَنا ناطره وإِنتو راجعين. ويومْها العرس عرسَين: شال أَزرق (يوم الزواج)، وبيرق عبيلوح” (يوم انتصار لبنان)، أَو لدى إِصابتها بجرح في زندها من رصاصةٍ أَطلقَها عليها والدُها ولم يعرفها لأَنها كانت ملَثَّمة في “بنت الحارس”.
وفي الثلاثة الأَفلام كان حضورُ فيروز لائقًا باسمها غناءً وبتمثيلها وغنائها مسرحًا، حتى لهو تتويجٌ مشرِّفٌ لمسيرةٍ فنيةٍ قلَّ أَن بلغَت أَوجَهَا مغنيةٌ/ممثلةٌ في العالم العربي.
غيابُ الحضور غير الرحباني
ختامًا، أَعود إِلى السؤَال الأَول في منطلق هذا النص: هل كانت فيروز معادِلَةً جديدَ الأُغنية الرحبانية وثَراءَ الأَدب الرحباني في جميع مفاصله؟ وهل كان يمكن سواها أَن تنجح في جمْع ما جمَعَتْه هي في شخصها وشخصيَّتها وموهبتها الفريدة؟
لا يمكن الجزْم بذلك، بل يمكن الجزم أَنَّ صوت فيروز زاد شِعرًا على الشِعر الرحباني، وزادَ عذوبةً على اللحن الرحباني، وزاد قيمةً فنية عالية على العمل الرحباني مسرحيًّا وسينمائيًّا.
هذا لا يعني أَن العمل الرحباني بدونها لم يكن جيِّدًا، ولا يعني أَن أَعمالها الأَخيرة بعد المرحلة الرحبانية لم تكن ناجحة (مع فيلمون وهبه وزكي ناصيف ومحمد محسن وخصوصًا مع زياد الرحباني).
أَعمال منصور الرحباني (12 مسرحية بعد غياب عاصي) أَخذَت حصتها من النجاح بدون النجومية الأُولى المفْردة.
وبالمقابل: أُغنيات فيروز مع الآخرين أَخذَت حصتها من جمهورها (خصوصًا من الجيل الجديد) في اتجاه آخَر جعلَها تغْنَم له من صوتها الفريد في الأَداء المفرد، ولو اننا لم نشاهد لها عملًا مسرحيًّا أَو سينمائيًّا غيرَ رحباني لنعرف مدى تأَلُّقِها فيه تمثيلًا وغناءً. وأَكيدًا لم يتقدَّم لها نصٌّ مسرحي أَو سيناريو فيلم مقْنِعٌ يجعلها تغْني ذاكرتَنا بحضورها غير الرحباني. ولعلَّ هذا ما يبرِّر، منذ سنوات، انسحابَها العلني من الوسَط الفني والحياة الاجتماعية والظهور الصحافي والإِعلامي لتبقى، بِـهَيْبَتِها الملَكية، الـ”ديڤا” التي تعيش خلودَها الرائع وتعاينُه كلَّ يوم.
ثلاثة عقود خصيبة
من هنا، لا تجوزُ المقارنة بين فيروز مع الأَخوين وفيروز وبعدهما، كما لا تجوز المقارنة بين الأَعمال الرحبانية مع فيروز وتلك التي بدونها. فالثالوث الرحباني ظاهرةٌ فريدة في الشرق لا تتكرَّر، بنصوص الأَخوَين وأَلحانهما وخصوصًا – خصوصًا – بصوت فيروز المفرَد وحضورها المفرَد. وهذا الزاد الفني الإِبداعي – طيلة ثلاثة عقود فيروزيةٍ رحبانيةٍ متتاليةٍ خصيبةٍ أُعجوبيةِ العطاء – سجَّل حضورَه العميق في الذاكرة الشعبية الجماعية، وفي ذاكرة التاريخ لبنانيًّا وعربيًّا وعالميًّا، حتى ما عاد ممكنًا تأْريخُ مرحلة 1947 – 1977 في لبنان من دون الحضور الرحباني الـمُضيء، وخصوصًا بدون الحضور الخالد لسُطوع السيدة فيروز.