وطنٌ اسمُهُ فيروز (1 من 3)
فيروز
حين رغبَت إِليّ إِدارةُ التحرير لدى “مؤَسسة الفكر العربي” في كتابة نص عن فيروز يتضمَّنُها كتابٌ يُهدَى إِليها في عيد ميلادها، إِصدارًا خاصًّا من مجلة “أُفُق”، أَكبرتُ الفكرة تأْتي خارج السياق التقليدي في تكريم مَن هي اليوم عنوانٌ آخرُ للبنان في العالَم. وحين صدر الكتاب بهذه الفخامة (350 صفحة حجمًا كبيرًا، و38 نصًّا بين شهادة وتجربة وتحليل في طباعة أَنيقة لائقة)، وجاء عنوانه “وطنٌ اسمُه فيروز”، أَكبرتُ أَكثر هذا العمل، على طريقة الأَكاديميَا الرصينة باستكتاب مجموعة خبراء في موضوع أَو عن علَم، فيَمضي الموضوع ويمضي العلَم ويبقى الكتاب مرجعًا موثَّقًا لا إِلى غياب.
قياسًا، جاء نَصِّي في إقليم أَوسط بين الشهادة والخبرة والتجربة المباشرة في البيئة الرحبانية الفريدة.
فيروز: سماء الكوكب الرحباني
منذ صدَحَ صوتُها، قبل ثُلثَي قرن (1957) على أَدراج بعلبك بعد ليل طويل، أَشرقَت شمسٌ لبنانيةٌ من سكون الأَعمدة والهياكل. كان ذاك صوتَها الذي يأْتيك من كلّ مكان حتى يُحيِّرك كيف استقبالُك إِياه.
صوتها الذي ينسيك معه أَنك أَنت، كي لا تفوتك لحظة من انسكابه.
صوتها الذي ظلَّ يَنضحُ شعرًا حتى باتت سيِّدتُه “شاعرة الصوت” في سماء الكوكب الرحباني.
هذا الصوت، في عصرنا، عنوانٌ آخَر للوطن. من الأَوطان مَا يمكن تعريفُها بِاسْمٍ واحدٍ، أَو ربما بأَكثر.. نحن؟ نختصر. نقول: “لبنان” فيُجيب السامع: “يعني وطن فيروز”!
منذ إِطلالتها الأُولى، قبل ثلاثة أَرباع القرن (1947)، بدأَت “مُتَوَّجَةً بالمجد” كما قال لي منصور الرحباني في أُولى جلساتي إِليه لوضْع كتابي “طريق النحل” (وعاد بعد غياب منصور فصدر طبعةً ثانية موسَّعة بعنوان “في رحاب الأَخوين رحباني”). وأَكمَل منصور يومها: “إِضافةً إِلى جمالِ صوتها وموهبتِها الخارقة، هي ظاهرةٌ لا تـتكرَّر: صوتُها مميَّز، إِطلاقةُ صوتها ممـيَّـزة، وكلُّ ما جاء في هذا الصوت – من خوارقَ وما خلْفَه من صَقْلٍ وتجارب – جعلَ منه رمزًا من رموز هذا العصر. تأَثَّر به الناس، وانطبع به حتى الشعراءُ في لبنان والعالم العربي، لأَنه لم يكُن مجرَّد صوتٍ وحسب”. لذا، منذ الـمَطالع، هتَف سعيد عقل: “هذه سفيرتُـنا إِلى النجوم”، وقال نزار قباني: “قصيدتي بصوتها اكتسَت حُلَّةً أُخرى من الشعر”.
ذاك اليوم بقلم القدَر
الصبيَّةُ الخجولُ التي سمعَها حليم الرومي ذات يومٍ في الإِذاعة اللبنانية، فاستدعاها ذاتَ يومٍ آخرَ إِلى مكتبه وكان فيه شابٌّ ناحلٌ ساهمُ العينين، ليقول لها: “يا بنتي، أُعرِّفُكِ بالعازف والملحِّن عاصي الرحباني، تَدَرَّبي معه وسيُعطيكِ من أَلحانه”، هل كانت تَحدُسُ إِلى أَين هذا العبقريُّ الفذُّ سيوصِل صوتها الفذَّ وموهبتها الخارقة؟
ويكتمل سعْدُ القدَر فتتزوَّج نهاد حداد (فيروز) من عاصي الرحباني (23 كانون الثاني/يناير 1955). يقول منصور: “جاءَت فيروز ذاتُ الحضور الآسر والصوت المفرد، فانضمَّت إِلينا. أَصبحنا ثلاثة. وراح صوتُها يخترق الحواجز العاطفية، ويُرَسِّب في لاوعي سامعه الأَفكار التي يحملُها”. من هنا يقول الشاعر أُنسي الحاج: “بعضُ الأَصوات سفينة. بعضُها شاطئ. بعضُها منارة. وصوت فيروز هو السفينةُ والشاطئُ والمنارة. هو الشعر والموسيقى والصوت، و…”الأَكثر” من الشعر والموسيقى والصوت”.
بلى… وأَبعدَ بعدُ أَبعدَ: إِنه الصوت الذي تَشربه روحُك قبل أَن يتقطَّر في سمعك.
لذا هو الصوت الذي يسجِّله التاريخُ عنوانًا آخرَ للوطن.
شخصية صوتُها الـمُفردة
لِـمَ هذه المقدمة عن الصوت؟ لأَن سيِّدته ليست مجرد “صوت”. ولأَننا، حين نقول “فيروز”، لا نقتصر على الصوت.
نقول “فيروز” لنعني خمسًا من الصفات نادرًا ما تنْجمع في موهبة.
1.الصوت: ويكفي أَنه أَلْـهَمَ شعرًا كبارَ شعراء العصر.
2.الإِحساس: وهو ساطع لديها حين تؤَدِّي أُغنيةً أَو مشهدًا مسرحيًّا. ومشاهدو مسرحية “پترا”في عمَّان (قصر المؤْتمرات – صيف 1977) يَذْكُرون كيف أَنها، كملِكة “پترا”، حين علِمَت بأَن الجنود الرومان خطَفوا ابنتها الصغيرة الأَميرة پترا، وراحت تغنّي لها: “يا عصفورة الجنوب، يا زغيرِه، اغفريلي”، انهمرَت دمعتُها، وكانت تعتمر منديلًا ذا حبة لؤْلؤ، فبدا كأَنَّ على وجهها لؤْلؤَتين: أُولى على جبينها، والأُخرى على خدِّها.
3.اللفظ السليم ومخارج الحروف: خصوصًا في الفُصحى، وهي أَتقنَتْ اللفظ منذ مطالعها إِذ درَّبها محمد فليفل (مكتشفُها الأَول) على التجويد القرآني، فأَجادَتْه وبات لفْظُها في غناء القصائد تامًّا ممتازًا فلا تَلْحَن. ومن إِتقانها اللفظَ السليم، ضبطَت مخارج الحروف فتلفظُ الذال والثاء والقاف بالصيغة السليمة.
4.المضمون: لم يقتصر صوتُها على غناء قصائدَ وأَلحان، بل حمل صوتُها، غناءً ومسرحًا، قيَمًا فكرية وحضارية وجمالية ووطنية ما جعل منها أَوسمة خالدة في الوجدان الشعبي والذاكرة الجماعية.
5.الأَداء: هنا نعبُر من الإِحساس في أَداء أَغانيها إِلى حضورها المسرحي (“الآسِر”، بتعبير منصور الرحباني) ما جعلَها تُؤَدِّي أَدوارَها المسرحية في إِدهاش أَكثر الممثِّلات احترافًا على المسرح أَو أَمام الكاميرا. فهي أَدَّت دور “الملكة زنوبيا” و”ملكة پترا” ببراعة ما أَدَّت بيَّاعة البندورة في “الشخص”، أَو “غربة” ابنة مدلج الثائرة في “جبال الصوَّان”، أَو “هالة” البنت البريئة الآتية إِلى “عيد الوجّ التاني” في “هالة والملك”، أَو الصبيَّة “عطر الليل” رسولة الأَمير إِلى شعب لبنان في مسرحية “فخر الدين”.
كيف تَطَوَّر إِبداعُها الصوتي من الـمطالع إِلى الجمهور؟
هذا ما أَ كشفُه في الجزء الثاني من هذه الثلاثية؟