18 أيلول 2007 العدد 12321 السنة 36
بين بولونيا وألمانيا هذه الأيام “نزاع دبلوماسي” لا علاقة له بالسياسة ولا بالسلك الدبلوماسي، بل سببُه موزار (وُلِد في سالزبورغ-النمسا 27/1/1756- وتوفّي في فيينّا 5/12/1791) ومخطوطتُه “الكونشرتو السابع والعشرون للبيانو والأوركسترا” وهو آخر كونشرتو وضعه موزار في كانون الثاني (يناير) 1791 (بخط يده المرتب، وبالريشة والدواة كالعادة، معتنياً بوضعه داخل ملف مخملي أخضر) وقدّمه في صالة أوبرا فيينّا (مساء 4/3/1791) وعزفه بنفسه على البيانو، وكان ذلك آخر ظهور علني له عازفاً ومؤلفاً، قبل وفاته بتسعة بأشهر.
اللافت في هذا “النّزاع الدبلوماسي” أن موزار (ابن النمسا) لا علاقة مباشرة له بأي من البلدين، فلا هو ولد في بولونيا ولا هو مات في ألمانيا أو عاش فيها. كل ما في الأمر أن المخطوطة (الموجودة اليوم لدى جامعة كراكوف في بولونيا) كانت نجت من قصف برلين خلال الحرب العالمية الثانية بعدما نقل النازيون عشرات آلاف الوثائق الثقافية المهمة في 500 علبة محكمة الإقفال، من المكتبة الوطنية في برلين الى القسم الشرقي للرايخ الثالث، وبينها مخطوطة موزار وأخرى لغوته. وعند نهاية الحرب بقيت هذه الوثائق المهمة في بولونيا بدل ألمانيا، فكانت “آخر أسير حرب ألماني” (حسب تعبير صحيفة “فرانكفورتر” الألمانية).
وحين طالبت ألمانيا باسترداد تلك “الكنوز”، بدأت المفاوضات بينها وبين بولونيا، واستمرت مكتومة سنواتٍ طويلة. ومؤخراً خرجت الى العلن وانتشرت في الصحف الألمانية، ما استوجب رد وزير الخارجية البولوني الذي قال إن ادعاءات ملكية المخطوطات “لا أساس لها”، فهذه الكنوز “تعويض بسيط عن خسائر بولونيا الثقافية الكبيرة خلال ست سنوات احتلال ألماني دمّر في بولونيا نحو 22 مليون كتاب وعشرات آلاف القطع الفنية، ولا يزال الرأي العام البولوني يتحسّر على روائعه الفنية المسلوبة أو التالفة، وحرائق مكتبات بولونية ومحفوظات لا يمكن التعويض عنها”.
ويعتزّ حافظ مكتبة جامعة كراكوفيا بوجود مخطوطة موزار لديه، متباهياً بأنها “محفوظة في أعلى مستويات ظروف الحفظ، ويعود إليها المهتمون معجبين بخط موزار المنمنم المرتّب الشديد الوضوح”.
هذه الظاهرة “الحضارية” في “النّزاع الحضاري” (كما بين بولونيا وألمانيا) لا نراها في أي بلد من البلدان العربية التي لا تزال غارقة في صراع النفوذ، وخلاف الحدود، ومشاكل سياسية ذات اهتمامات شخصية وشخصانية تنفع القادة وسلالاتهم ولا تعود بالنفع على الشعب ولا على تراث الوطن ولا على… ذاكرته الإبداعية.
مقياس رقي الشعوب وحضارتها: ما لديها من معالم حضارية وثقافية وإبداعية، لا بما فيها من أعداد بشرية يديرها الحاكم بـ”الريموت كونترول” فتنْزل مرة الى الشارع، وتحتشد مرات تحت شرفة القصر لتعييش الحاكم والتهييص له وحمل اليافطات الببغاوية بمديحه والدعاء له بطول العمر وإطلاق صيحات غرائزية ببغاوية انطلاقاً من شخير “بالروح بالدم نفديك يا …”.
ومن اليوم حتى نبلغ في البلدان العربية مستوى أن تتنازع دولتان على شأن حضاري حول مَخطوطة لمبدع عربي، لا نعرف كم مرة ستدور الأرض العربية حول شمس الحضارة كي يصل أحد أحفادِ أحفادِنا الى أن يكتب مقالاً يتباهى فيه بالرقي الذي بلغته هذه الأمة المتمدِّدة (سياسياً وجغرافياً) من أقصى الجهل الى أقصى الأمية”.