الروائية التي أَحرقَتْ كُتُبَها واعتَكَفَتْ (2 من 2)
روزماري تونكس: “إِلياذة العبارات المكسورة”
في الحلقة الأُولى من هذه المقال أَوردتُ ملامح من البؤْس الذي انتهت إليه الروائية الإِنكليزية روزماري تُونْكْسْ Rosemary Tonks (1928-2014)، حتى أَنها بلغَت النجاح الأَدبي الواسع الذي يتمنَّاه كل كاتب، ثم قررت أَن تكسر قلمَها وتعتكف وتنعزل وتنسحب من الحياة العامة، وأَكثر: أَحرقَت مخطوطاتها وَجَمَعَت ما استطاعت جَمْعَهُ لدى المكتبات من كتُبها المطبوعة وأَحرقَتْها وأَمضَت البقية من حياتها، نحو أَربعين سنة، بإِخفاء كل أَثَر لها سيرةً شخصيةً ومسيرةً أَدبية.
في هذه الحلقة الثانية (الأَخيرة) أَضواء أُخرى عليها.
التساؤُل الفاجع
حين توفيَت وحيدةً في الخامسة والثمانين، كانت انسحبَت من الحياة العامة منذ منتصف السبعينات، بعد سلسلة من المآسي التي ضربَت حياتها الشخصية (لا الأَدبية) بين أَحداث مَرَضيَّة واكتئاب نفسي، فغاصَت في التساؤُل الفاجع عن أَهمية الأَدب والنجاح الأَدبي، وغاصت في جَلْد ذاتها بِقَسْوة وشبه انتحار بطيْء.
حملَت شيخوختَها و… انعَزَلَت
رمبو، بودلير، تشيخوف، بروست…
سنة 1967، قالت في حديث صحافي عن بودلير ورِمْبو، وكانت مُعجبَة بهما: “كانا شاعرَيْن عميقَين إِنما لن يتركا ما يمكن أَن نتعلَّم من عُمقهما. من واجب الشاعر أَن يثير إِعجابنا ويكشفَ عن خبايا حياته الخاصة”. ما يعني أَنها كانت بدأَت بالحالة النفسية التي أَوْدَت بها إِلى الاكتئاب. وواصلَت فكرتها معتبرة، عدا رمبو وبودلير، أَن مرسيل بروست وتشيخوف وتولستوي وشعراء القرن التاسع عشر الفرنسيين أَضاعوا عمرهم وأَربكوا قرَّاءَهم فأَبعدوهم عن حياتهم الخاصة التي فيها الكثير من الوحدة والتوحُّد والانفراد. وهو ما ظهر أَيضًا في قصائد من مجموعَتَيْها الشعريَّتَيْن “ملاحظات في المقاهي وغُرَف النَوم” (1963) و”إِلياذة العبارات المكسورة” (1967).
هذا أَدبيًّا. أَمَّا حياتيًّا فبعد انعزالها داخلَ بيت ناءٍ في مدينة بورنْماوث، رفضَت أَن تستقبل أَحدًا من أُسرتها أَو أَصدقائها القدامى، وحتى ناشري مؤَلفاتها الذين كانوا عبثًا حاولوا إِقناعها بإِعادة طبع مؤَلفاتها، الروائية والشعرية، بعد نفادها من المكتبات. وإِذا هي كما وصفَها براين باتن في برنامجه الإِذاعي من الــ”بي بي سي”، “تبَخَّرَت في الهواء واضمَحَلَّت”.
مطالع ناجحة
بدايتُها كانت عادية. ولدَت في غيلينغهام (مدينة كبرى في مقاطعة كِنْت، جنوبي شرقي إِنكلترا)، وكانت وحيدة والديها: أَمها غْويندولين وأَبيها دسمونْد تونْكْسْ الذي كان مهندسًا ميكانيكيًّا توُفي بالحمّى في أَفريقيا قبل أَشهر من ولادة روزماري. وصدَف أَن كان شقيقُه مايلز متزوجًا من دوروثي شقيقة والدتها، وهي تعهَّدتها في طفولتها ثم رعتْها لاحقًا في بورنماوث بعدما تفاقم وضعُها النفسي. ومنذ يفاعتها، تلميذةً متفوقةً في معهد وِنْتْوُورث (بورنماوث) بدأَت تكتب قصصًا قصيرة بدائية للأَطفال. وبدأَت منذ تلك الطفولة تعاني من ضعف البصر في عينها اليسرى ثم في عينيها الاثنتَيْن.
سنة 1949 تزوَّجَت، بدون حُب ولا أَيِّ عاطفة ودودة، من المهندس والمتموِّل مايكل لايتْبِند، وسافرَت معه بسبب أَشغاله إِلى الهند فباكستان، وأُصيبت بالحمى في كالكوتا ثم في كاراتشي بالشلل في يدها اليمنى، ما جعلَها تعتاد على الكتابة باليد اليُسرى وتلبس قفازًا في اليمنى المشلولة. وبعد سنتَين غير سعيدتَين في باريس (1952 و1953) انتقلت مع زوجها إِلى حي داونشاير هِلّ في هامستيد (ضاحية في لندن) معاونةً زوجها في أَعماله. وراحت تختلف إِلى الصالونات الأَدبية في محيطها، وقدَّمَت برنامجًا ناجحًا في إِذاعة “بي بي سي” ونشرَت قصائدَ ومقالاتٍ ناجحةً في صحُف ومجلات إِنكليزية رائجة.
مطالع الاكتئاب
سنة 1968 توفيَت والدتها في حادث سيارة، فوقعَت روزماري في حُزن فاجع، وأَخذت تحضر جلسات للمعالجة النفسية وجلسات أُخرى للصوفيين والطقوس الصينية الروحية. وجاء طلاقُها من زوجها سنة 1972 ليزيد من كآبتها وانعزالها الذي دخلَت فيه إِلى آخر حياتها. سكنت أَوَّلًا على بُعد أَمتار قليلة من منزل طليقها وزوجته الجديدة. وبدأَت تكتب رواية جديدة لم تَرَ النور بل بقيَت مخطوطة.
سنة 1977 دخلَت مستشفى ميدلْسِكْسْ لعملية جراحية في شبكة عينَيها، ما أَوقعها في شبه انطفاء بصرها. وإِذ بات صعبًا عليها أَن تقرأَ أَو تطبخ، ما عادت تغادر منزلها مطلقًا.
“بدويُّ لندن مساءً”
النهائية التاعسة
سنة 1979 انتقلَت تعيش لدى خالتها دوروثي في بورنماوث، ثم انتقلَت سنة 1980إِلى شقَّة في المدينة ذاتها، مشرفة على البحر، وباعت كلَّ ما عندها وأَتلفَت ما لا يباع منها.
وظلت مختفية في عزلتها النفسية التامة سنواتٍ طويلةً مريرةً حتى انطفأَت في 15 نيسان/أَبريل 2014، تاركةً إِرثًا أَدبيًّا لم تعُدْ تلتفِت إِليه، ومخطوطةَ روايةٍ لا يعرف أحدٌ إِن كانت أَنجزَتْها، لأَنها كانت طعمَ النار باليد ذاتها التي كانت كتَبَتْها.