وثيقة جديدة: لماذا اعتذَرَ نعيمه عن ترجمة جبران (1 من 2)
أَلفْرد وبلانش كْنوف عند تأْسيسهما دار النشر (1915)
يواصل الباحث الإِيطالي فرنشِسكو مِديتشي Francesco Medici تنقيباته الموفَّقة عن جبران سيرةً ومسيرة، تَعَاوُنًا بحثًا ونشْرًا مع الجبراني الآخَر اللبناني الأُسترالي غْلِنْ كَلِم حبيب Glen Kalem-Habib صاحب موقع The Kahlil Gibran Collective الواسع الانتشار في العالَم.
آخر المُكتَشَف: رسالةٌ من ميخائيل نعيمه إِلى أَلفرد كْنوف (ناشر جميع مؤَلفات جبران الإِنكليزية) أُورِدُها في الجزء الثاني من هذا المقال بعد تفاصيل، في هذا الجزء الأَول، استَقَيْتُها من مراجع شتى حول العلاقة المهنية بين جبران وناشره الأَميركي الوحيد.
طموحُ ناشرٍ أَميركي
منذ قرَّر الأَميركي أَلفرد كْنوف Knopf (1892-1984) وزوجته بلانش (1894-1966) تأْسيسَ دار للنشر في مدينة نيويورك سنة 1915، أَضمَرَ أَن تكون منشوراتُه مغايرةً وجاذبةً مساحاتٍ واسعةً من القراء. لذا عَمَد إِلى البحث عن مؤَلفين ساطعين أَصدر لهم بالإِنكليزية ترجماتٍ عن روائعهم الرائجة. هكذا نشَر مؤلفاتٍ ومترجماتٍ لكُتَّاب من أُوروبا وأَميركا اللاتينية وروسيا، فاشتهرت دار “منشُورات كْنوف” بسرعة، وباتت مطمح المؤَلفين الذين يَضمَنون انتشار كتبهم بسرعة لدى صدورها عن “منشورات كْنوف” التي كانت تتأَنَّى وتتأَنَّق شكلًا ومضمونًا في الطباعة والإِخراج والتجليد والأَغلفة الفنية.
هكذا تعرَّف بـجبران
لِعلاقة أَلفرد كْنوف بجبران قصة لافتة: كان الشاعر والكاتب الأَميركي (مؤَسس مجلة “الفنون السبعة”) جيمس أُوبنهايم (1882-1932) يزور يومًا أَلفرد كْنوف الذي نشر له عددًا من مؤَلفاته، فدعاه إِلى الغداء، واعدًا إِياه أَن يعرِّفه بـ”كاتب شرقيٍّ موهوب ومتفرِّد”. وهكذا كان: تَمَّ اللقاء ظهر الخميس 9 أَيار/مايو 1918 في مطعم صغير وسْط حي “غرينيتْش” (جنوبيّ جزيرة مانهاتان في مدينة نيويورك). وكان ذاك “الكاتب الشرقيّ الموهوب المتفرد” صديقَه جبران. وكان جبران قبلذاك أَنجز مخطوطة “المجنون” (أَوّل كتاب له بالإِنكليزية) وأَرسلَها إِلى الناشر ماكميلان فرفَض نشْرها “لغرابة نصوصها”. أَصغى كْنوف في ذاك اللقاء إِلى جبران يقرأُ له مقاطع من “المجنون”، فَلَفَتَتْهُ ووافَق على نشْر الكتاب. وها هو جبران فَرِحًا يروي البقية لماري هاسكل في رسالته إِليها نهار الأَربعاء 29 أَيار/مايو: “اتفقتُ مع أَلفرد كْنوف على كلّ شيء. وهو شاب لطيف، كلما اجتمعتُ به أَنِسْتُ إِليه أَكثر. له ذوق دقيق في جمال الطباعة والإِخراج… وقَّعنا العقد صباحَ أَمس الثلثاء، وفي الجلسة ذاتها أَرسل كْنوف رسم الغلاف إِلى الزنكوغرافي كي يحفرَهُ. وسيكون في الداخل رسمان آخَران. يريد كْنوف إِصدار الكتاب في منتصف تشرين الأَول/أُكتوبر المقبل مع مطلع الموسم”.
وبالفعل، نهار الثلثاء 22 تشرين الأَول/أُكتوبر أَرسل جبران إِلى ماري أَول نسخة مطبوعة من الكتاب، خطَّ على صفحتها الأُولى إِهداء إِليها، ترجَمَتُه: “إلى م.إ.هـ M.E.H.، هذا أيضًا أَدين لكِ به. خ.ج.K.G” (أَحرف “م. إ. هـ.” تعني: ماري إِليزابيت هاسكل). وظلَّ تاريخ صدور الكتاب مميَّزًا في ذاكرة جبران، لأَن ذاك الشهر ذاته شهِدَ توقيع الاتفاق على السلْم الذي أَنهى الحرب العالمية الأُولى.
كْنوف وزوجته بريشة صديقهما جبران
ناشر جبران الوحيد
بعد “المجنون” (1918)، شعَرَ كْنوف أَنه أمام كاتب غير عادي وراح يَحُثُّه على وضع كتاب آخر، فكان “السابق” (1920) ثم الكتاب الخالد “النبي” (1923)، فــ”رمل وزَبَد” (1926)، فــ”يسوع ابن الإِنسان” (1928) فــ”آلهة الأَرض” (1931). وبعد وفاة جبران (10 نيسان/أَبريل 1931) أَصدر له كْنوف “التائه” (1932) فــ”حديقة النبي” (1933). ثم أَصدر كتاب “خليل جبران – قصائد من نثر” (1934) وهي نخبة نصوص لجبران بالعربية نقلها إِلى الإِنكليزية إِندرو غَرِيْب مع مقدمة من باربرة يونغ، وكتاب باربرة يونغ الشهير “هذا الرجل من لبنان” (1945)، ثم “دمعة وابتسامة” و”الأَرواح المتمردة” (1950 كلاهُما بترجمة هـ. م. نَحمَد)، وكتاب “النبي الحبيب – رسائل الحب بين جبران وماري هاسكل” (تحقيق وتقديم فرجينيا حلو – 1972).
رَفَضَ مخطوطَتَين لـجبران
بعد الحرب العالمية الثانية، تلقَّى كْنوف مخطوطة “الأَجنحة المتكسرة” (أَصدرها جبران بالعربية سنة 1912) من ترجمة اللبناني أَنطوني رزق الله فارس، لكن كْنوف – بضغط صارم من باربرة يونغ أَن “الترجمة سيِّئة” – رَفَض نشْر الكتاب بعدما كان وقَّع عقدًا مع فارس، وعاد الأَخير أَصدره لدى منشورات “نيويورك سيتادِل” سنة 1957. كما سبَق لكْنوف أَن رفضَ نشر ترجمة فارس كتاب “دمعة وابتسامة” (أَصدره جبران بالعربية سنة 1914) فأَصدره فارس سنة 1949 لدى “منشورات المكتبة الفلسفية” – نيويورك.
ولأَن كْنوف كان حريصًا على بقائه الناشرَ الأَميركيَّ الوحيد لمؤَلفات جبران التي ردَّت عليه مبالغَ دسمة، راسل “لجنة جبران الوطنية” في بشرّي سائلًا إِياها مَدَّهُ بمجموعة كتُب جبران العربية واقتراحَ مَن يمكن أَن يترجمها غير أَنطوني فارس. فترتئذٍ كان رئيس اللجنة حبيب كيروز، ودامت المراسلة المتبادلة معه بين شباط/فبراير وآذار/مارس 1946، حتى اقترح كيروز أَن “الوحيد الذي نَأْتَمِنُهُ بدون تحفُّظ على مؤَلَّفات جبران بالعربية والإِنكليزية هو ميخائيل نعيمه، وهو حاليًّا في لبنان”.
ماذا جاء في رسالة كْنوف إِلى ميخائيل نعيمه؟
ما كانت رسالة نعيمه الجوابية؟
ولماذا اعتَذَرَ نعيمه عن ترجمة مؤَلَّفات جبران العربية؟
هذا ما أُفصِّلُه في الجزء التالي من هذا المقال.