14 آب 2007 العدد 12286 السنة 36
بعد عودتي من عمَّان وحضوري مهرجان جرش (مقالي الأسبوع الماضي) مررتُ ببيروت يوماً واحداً غادرتُ بعده الى المغرب مدعواً من “مؤسسة منتدى أصيلة” لحضور “موسم أصيلة الثقافي” في دورته التاسعة والعشرين.
لم أَكن أعرف أحداً في المغرب سوى علاقتي المحلية في بيروت بالدكتور علي أومليل سفير جلالة الملك في لبنان. ومنذ وصولي الى أصيلة أخذتُ أتبيَّن تباعاً “قصة” هذا المهرجان الذي نقل “أصيلة” من بلدة بحرية على شاطئ الأطلسي راكدة شبه مهملة في شمال المغرب، الى مدينة للثقافة والفنون أضاءت لا في المملكة المغربية وحسب، بل على خارطة المنتديات الثقافية في العالم.
كل ذلك، وراءه دماغ من “أصيلة” طليعي ريادي: محمد بن عيسى. كان في مقتبل الأربعين حين انتخبه أبناء بلدته عضواً في مجلسهم البلدي، وكان معه في المجلس دماغ ريادي آخر: المهندس محمد المليحي. اجتمع الدماغان معاً على “فعل شيء” لهذه البلدة التي تعاني من الإهمال والركود والبؤس اللوجستي. وكان الأصعب: إقناع أهل البلدة بتنظيفها والحفاظ على البيئة السليمة. وبما كان لمحمد عيسى من شبكة اتصالات (وهو المثقف الراقي والكاتب والأكاديمي) أقنع 17 رساماً مغربياً بالمجيء الى أصيلة والرسم على جدران “المدينة القديمة”. وفوجئَ “المحمّدان” (بن عيسى والمليحي) بحماسة أهل البلدة في اقتبال هذه الظاهرة التي كانت حافزاً لهم للحفاظ على الجدرانيات وتالياً على نظافة البلدة.
ذاك الحافز “الأصيلي” كان حافزاً لمحمد بن عيسى على تكرار الظاهرة سنوياً، وإنشاء “منتدى أصيلة الثقافي” الذي راح (منذ تأسيسه سنة 1978) يتطوّر من سنة الى سنة، والبلدة تتطوّر من سنة الى سنة، وأهل “أصيلة” من سنة الى سنة يعون تباعاً أهمية هذه الظاهرة وتحسين البنية التحتية واللوجستية في البلدة (إنارة كهربائية، تأهيل طرقات، تحريك الدورة الاقتصادية لأصحاب المهن من مطاعم وفنادق وشقق للإيجار وسائر الخدمات) حتى باتت “أصيلة” اليوم تنتظر “شهر المنتدى” طوال أشهر السنة، وانتقلت من بلدة حافية تعيش على الزراعة وصيد السمك، الى مدينة سياحية تستقطب الزوار من أربعة أقطار الدنيا. وتحفّزت أجيالها الشابة في هذه البيئة الثقافية، وهي تعاين مشاركة كبار أعلام الفكر والثقافة والفنون في لقاءات “أصيلة”، فخرج منها شعراء وفنانون يتمدَّدون اليوم على مساحة المغرب، ومنهم من توسَّع الى منارات الثقافة في العالم.
كل هذا (كما قال لي مسؤول كبير في المهرجان) ومحمد بن عيسى لا يطلب درهماً واحداً من خزينة الدولة، ولا حتى من وزارته (الخارجية اليوم وقبلها وزارة الثقافة) بل يوظِّف شبكة علاقاته الشخصية والثقافية والفكرية مع قطاعات منتجة وصناعية وسياحية لتأمين رعايات تجارية تكفل للمهرجان ميزانية لا تقل عن مليون دولار، تتيح دعوة كبار الأعلام من جميع دول العالم يأتون ضيوفاً، أو مشاركين في الندوات الفكرية، أو في السهرات الثقافية (الموسيقية أو الغنائية أو الشعرية) أو في سمبوزيومات الرسم والحفر، وفي معارض تشكيلية (فردية وجماعية) تنفتح لها قاعاتُ قصرٍ في المدينة القديمة رمَّمه بن عيسى وجعله “قصر الثقافة”، فإذا بمدينته رمز المكان الذي يزهر بالجمال، وإذا به أمثولة لكل عاشق بلدته يوظف عشقه إياها في خدمة الثقافة والفنون لا السياسة.
الشاهد من كل هذا: العقل الإبداعي. لِـوحدِهِ دولةٌ حين يعمل في نقاء وشفافية. وهكذا محمد بن عيسى.
في العالم العربي بلدات كثيرة نائية، مؤهلة لتكون أيّةُ واحدة منها “أصيلة”: أي واحة للثقافة والفنون.
إنما، قبل كل شيء، يلزمها دماغ من طراز محمد بن عيسى.