الحلقة 185: انطباعات من الصين (الجزء العاشر والأخير): بين الصين الدولة، ولبنان العشائر
(الجمعة 29 تشرين الأول 2004)
ولا نغادر الصين قبل أن نسجّل لهذه القارة المترامية الشاسعة الواسعة دقَّتها في التنظيم الْمُدُني، وفي الحدائق المزهّرة، والخضرة الأنيقة في الشوارع، والإعلانات الجدارية الكبيرة المتباعدة، وجسور مشاة لا يتجاسر أحد على المرور تحتها، وإشارات سير كهربائية حتى في المدن النائية والقرى البعيدة، يحترم الوقوفَ عليها السائقون بشكل تلقائي.
قارة بحجم الصين تضبط كل تفصيل، لسبب وحيد: أنّ الدولة حاضرة بكل هيبتها ورهبتها.
وبلدٌ جغرافياه بحجم محافظة في الصين، تغيب دولته عن الحضور والهيبة والرهبة، فتنتشر الإعلانات الجدارية فيه غابةً من البشاعة والقباحة والوقاحة ولا من يحاسب، وتنتشر فيه فوضى التنظيم الْمُدُني أبنيةً متراكبةَ الرجم الحجارية معرَّضَةً لخطر الانهيار ولا من يحاسب، وتغيب الحدائق والخضرة عن شوارعه لأن الصيانة معدومة ولا من يحاسب، وجسور المشاة قليلةٌ وحيث هي يمر المواطنون تحتها لا عليها ولا من يحاسب، وتضيء إشارات السير فيه ولا يتوقف عندها السائقون، ولا من يحاسب.
قارة بكاملها مضبوطة بحسمٍ وحزم لأن الدولة حاضرة بهيبة ورهبة.
وبلدٌ بحجم محافظةٍ في تلك القارة، تنتشر فيه الفوضى المدنية بسبب غياب هيبة الدولة.
قارة اسمها الصين. وبلد اسمه لبنان.
لا يمكن زائر الصين إلاّ أن يقارن، بغضبٍ يقارن، وبحُرقةِ أنْ لماذا عندنا لا تكون الدولة حاضرةً بهيبة ورهبة وحزم وحسم.
لماذا؟ ربما لأن دولة الصين تحكم بحزم المستقبل، وعندنا لا يزال طاغياً منطقُ العشائرية والمحاصصة والمعليشية والمحسوبية والزبائنية، ولا يزال السكان مجردين ممن هم، ليكونوا أزلام البابازات وزعماء العشيرة. وعقلية العشائر والبابازات لا تزال بعيدةً عن أن تكون… دولة.
كنتم معي طوال هذا الأُسبوع والأسبوع الماضي في انطباعاتٍ منَ الصين… إليكم بيروت.