الحلقة 184: انطباعات من الصين (الجزء التاسع): ورشةٌ طولُها أَربع ساعات
(الخميس 28 تشرين الأول 2004)
بين نانْجين وشانغهاي أربع ساعات قطعناها بالباص في وضح النهار، فعاينّا طوال الطريق ظاهرةً مذهلةً فعلاً، تتلخَّصُ بورشةٍ تابعناها منذ انطلقنا من نانْجين، حتى وصلنا الى شانغهاي.
ماذا في هذه الورشة؟ أوّلاً استصلاح الطريق السريع البالغ 290 كلم، بتحويل السير من الجهة اليمنى الى الجهة اليسرى عند ترميم الجهة اليمنى، أو العكس بالعكس، من دون التسبب بزحمة سير، أو تعريض السير لأي خطر أو تأْخير. والاستصلاح الجديد بالتزفيت الناعم السلس، لا يعني أن الطريق العادية سيّئة، بل هي صالحة الى حدٍّ كبير لكنَّ الدولة حريصة على الاستصلاح المستدام.
وفي الورشة أيضاً، عن جانبي الطريق طوال الساعات الأربع والـ290 كلم، مئات العمال يعملون في بناء الأبنية السكنية والمصانع والمعامل والمحطات الزراعية، كأنما الصين تريد استغلال كل شبر مربع من مساحاتها الهائلة، لتملأَها سكناً ومصانع وإنتاجاً وزراعةً، إيماناً من الدولة بأن لكل مواطنٍ حقَّه في فرصة العمل وفرصة السكن وفرصة الرفاه في السير على طرقاتٍ آمنة لا مطبات فيها ولا تشققات ولا حفراً ولا فوهات مفتوحة.
290 كلم، لا سائق الباص تجاوز السرعة المطلوبة، ولم نكن نقطع أكثر من أربعين أو خمسين كيلومتراً إلا وتطالعنا دورية مرور أو شرطي سير يرصد الطريق ذهاباً وإياباً، مع أننا قطعنا، في هذه الساعات الأربع، مسافاتٍ خاليةً من القرى أو المدن السكنية.
مسافة 290 كلم ممتلئةٌ ورشةَ بناءٍ وعمرانٍ وتأهيلَ طرقاتٍ ودورياتِ مرورٍ طَوال الطريق.
ضيعة المليار والثلاثمئة مليون واعيةٌ على كل شبرٍ من أرضها، وعلى كل مواطن من سكانها. أما نحن، قارة الـ10452 كلم مربع، وحفنة الأربعة ملايين نسمة، فيصعب، طبعاً، التحكُّم بأراضيها الشاسعة وطرقاتها المترامية، لأن الدولة، مثل التانت مرتا، مشغولة بأمور كبرى أهمَّ من أن تهتم بأمور صغيرة كإيجاد فرص عمل، أو السهر على ورشة عمران تؤمن مستقبل البلاد.
والى اللقاء غداً في انطباعٍ أخيرٍ من هنا، منَ الصين… إليكم بيروت.