الحلقة 183: انطباعاتٌ من الصين (الجزء الثامن): مدُنٌ بكاملها على الدرّاجات الهوائية
(الأربعاء 27 تشرين الأول 2004)
لاحظتُ حولي في الشوارع الصينية كثرة الدراجات الهوائية يستخدمها المواطنون، نساءً ورجالاً، من مختلف الأعمار، يتوقفون على الضوء الأحمر، يحترمون أولويات السير، وفي معظم الشوارع خصَّصت الدولة مَمَرّاتٍ رصيفيةً خاصةً للدراجات الهوائية، لا يعبرها الْمشاة ولا تدخلُها السيارات.
أبديتُ ملاحظتي لدليلتنا جوليا فابتسمَت وقالت: “هذا الكثير الذي تراه اليوم، هو جُزءٌ ضئيلٌ مِما بقي. ففي السابق كانت الإمكاناتُ الْماديةُ ضئيلةً فلم يكن في وسع معظم الْمواطنين اقتناء السيارات للتنقُّل فكانوا يذهبون الى أعمالهم ومدارسهم ومصانعهم على الدراجات الهوائية. وفي فتراتٍ كان التقشُّف مِلءَ البلاد فكان الناس جميعاً يتنقَّلون على الدراجات الهوائية حتى السياسيون والنواب”.
ماذا؟ النواب يا جوليا؟ “نعم”، قالتها ببرودة، “النواب. أليسوا خادمي الشعب وصورتَه؟ إذا كان الناس يتنقّلون على الدراجات فلماذا لا يتنقل مثلهم النواب”؟
تظاهرْتُ بالانشغال عن جوليا في النظر الى الشارع والدرّاجين الذين يدوسون كادِّين الى مقاصدهم، لكنني غبتُ عن النظر أمامي بالنظرة ورائي الى ما عندنا في لبنان، حيث السياسيون يستخدمون أفخم السيارات حتى في أشد حالات التقشف وأزمات البنْزين، ولا تغيّر صعوباتُ الوضع نَمطَ حياتِهم اليومية الْمنفلشة على السيارات والْخدم والْحشم والْمرافقين والأزلام، على قاعدة ذات الصون والعفاف السيدة ماري أنطوانيت التي حين انقطع الْخبز عن الناس وروجعَت فأجابت: “بسيطة, ليأكلوا البسكوت”.
فما أبلغ أمثولة الصينيين هنا في التقشُّف حين يؤدي الى نهضة الدولة حتى تُخطط لمستقبل الناس.
وما أكثر الماري أنطوانيتيين بين معظم السياسيين عندنا، في نصح الناس بالتقشف إنما في إبقائهم حتى على “البادي غاردس” بِحجة الحرص على حياتهم الغالية التي وضعوها، من غير شر، في خدمة الْمواطنين الأحباء.
هنا في الصين دراجات هوائية للمواطنين في حساب الدولة، وهناك في لبنان تفشيخات هوائية لمعظم السياسيين على حساب الناس.
والى اللقاء غداً في انطباعٍ آخرَ من هنا، منَ الصين… إليكم بيروت.