7 آب 2007 العدد 12279 السنة 36
أكتب هذا المقال فور عودتي من عمَّان، بعد اشتراكي في بعض فعاليات مهرجان جرش الذي تتهيَّأُ له الدولة في الأردن كل عام، وتوفّر له مقومات النجاح الشعبي والفني والإداري.
عدتُ الى جرش هذا العام بعد غياب عنها طويل، وكنتُ شاركتُ على مدارجها أكثر من مرة بسهرات كبرى لفنانين كبار، تتألّق فيها مدارج جرش بالقديم التاريخي والـمُعاصر الفني، فأحمل إليها، وأنا في حضنها، أصداء ما يماثلها من بعلبك في الفترة نفسها وفي الحضور التاريخي نفسه وفي المستوى العالي الذي جعل كبار أعلام الفن، عَرَبَهم والغربيّين، يقفون في اعتزاز على مدارج بعلبك ويضيفون وقوفهم هذا بكل رحابة الى سيرتهم الذاتية.
غير أن عودتي هذا العام الى جرش، كان لها طعمٌ آخر: طعم الغصّة والقهر مَمزوجاً بالثورة والغضب. ذلك أن أدراج بعلبك هذا الصيف مطفأَةٌ صامتة حزينة وحيدة، لا أوركسترا عالمية تُهدهدُها حتى الترنُّح الجميل، ولا صوت صدّاحاً يطلع من أرجائها فيرفع هيبتها الى فضّة القمر في صحو ليلة صيف، ولا فرقة كوريغرافيا تَهز حجارة التاريخ تحت أقدام الصبايا والشباب فترتقص الحجارة قبل أن يصفق الحضور المنتشي جمالاً في ليل هياكل بعلبك الأعجوبية.
صامتةٌ بعلبك هذا العام. وصامتةً كانت العام الماضي. و… من يدري إن كانت ستصمت العام المقبل أيضاً، ولأي سبب؟
وصامتةٌ كذلك ليالي بيت الدين التي كانت توزع على الشوف وكل لبنان نجوم الفرح والفن والجمال.
وصامتةٌ معها ليالٍ كثيرةٌ كانت تتهيَّأُ لتضيء العتمة بقناديل البهجة والدينامية والحركة والزهو بصيف لبنان المتفرد.
شكراً وتحية لمهرجانات بيبلوس التي واصلت التحدي وأكملت في تنفيذ برنامجها.
على أدراج جرش كنتُ فرحانَ بزهو جرش، شاكراً دعوتي إليها، إنما حاملاً في قلبي غصة مقهورة على سكوت ليالي لبنان المهرجانية فيما ليالي الجوار والمحيط مشعشعة بمهرجانات تترى تتوالى قاطفة جماهير تهرع إليها غير مدركة (والأصح: غير مهتمة) بما سكت في لبنان (إلاّ في ذكر عابر لحسرة عابرة). فالناس يريدون أن يعيشوا ويسهروا ويحضروا ويأنسوا ويفرحوا، ولن يتوقفوا عند توقف مهرجان هنا أو هناك في لبنان. و… معهم حق. فالحرق لا يكوي إلا صاحبه. وما ذنب الآخرين أن يحترقوا أو يشعروا بالحريق؟
على أدراج جرش، كنتُ مشلّعاً بين الأُنس والغضب: الأُنس ببرنامج منوّع سعت إليه لجنة المهرجان ووفرت له سبُل النجاح وحضور الجماهير ومستوى الأعلام المشاركين، والغضب من جماعة طقم سياسي في بلادي ظلُّوا يتناتشون السلطة ويتناهشون الحكْم ويتصايحون من متراس إعلامي الى منبر سياسي، حتى هـجَّ الناس منهم ومن لبنان، وانصرفوا الى واحات أخرى، وأشاحوا حتى عن الحديث في موضوع لبنان السياسي بعدما يئسوا من إمكان أن يعي هؤلاء المتناتشون المتناهشون المتصايحون أنهم ينحرون مستقبل جيل لبناني كامل هاجر بعضه ويستعد البعض الباقي للهجرة، وما زالوا هم يواصلون نهش البقية الباقية من عافية وطن جعلوه مسطرة لـ”هيراكيري” الأوطان، وشحّاداً ذليلاً عند أبواب الدول “المانحة”.
على أدراج جرش، كنتُ حزيناً وغاضباً لتذكُّري بعلبك الصامتة، لكن الثورة في قلبي وفي قلمي جعلتني أضاعف نيتي على أن أكون وأبقى هذا الصوت العنيد في ترجمة ذينِك الحزن والغضب.