31 تموز 2007 العدد 12272 السنة 36
جاء في الأخبار (عن وكالة “رويترز”) أن ثرياً فرنسياً في مزاد علني دفع 4،8 ملايين يورو ثمن سيف ذهبي مقوّس (طوله نحو متر) هو “آخر سيف استخدمه القنصل نابوليون بونابارت في معركة مارنغو” (شمالي إيطاليا، بانتصاره على جيش النمسا في 14/6/1800 مُحقِّقاً لفرنسا نصراً كبيراً قبل أن يصبح لاحقاً أمبراطورها الأعظم في 18/5/1804). وكان بونابارت استلهم تصميم ذاك السيف من حملته على مصر (16/7/1798) إذ وجد سيوف العرب مقوّسة وفعّالة في قطع رؤوس جنوده الفرنسيين. بعد انتهاء معركة مارنغو وعودته مظفَّراً الى فرنسا، قدَّم السيف هدية زواج الى شقيقه الذي احتفظ به أبناؤه جيلاً بعد جيل. وسنة 1978 أصدرت الحكومة الفرنسية قراراً صنّف ذاك السيف “كنْزاً وطنياً يُمكن بيعُه، شرط أن يكون الشاري فرنسياً، وإلاّ (إن لم يكن فرنسياً) فعلى شرطين: أن يكون له عنوان ثابت في فرنسا، وأن يُبقيه على الأراضي الفرنسية 6 أشهر كاملةً كل سنة.
على ذكر فرنسا: ذات يوم (18/7/1996) كان جمع في باريس يمشي بطيئاً بمهابة ووجوم، وراء نعش فخم يسير من ضريح خاص الى مدخل البانتيون (مدفن العظماء)، وعلى رأس الجمع يمشي رئيس الجمهورية عهدئذٍ جاك شيراك. كان ذلك يومها احتفال نقل رفات الأديب الفرنسي الكبير أندريه مالرو (1901-1976) يرافقه رئيس جمهورية بلاده الى مدافن عظماء فرنسا.
وعلى ذكر الأدباء الكبار في أوطانهم: بعدما ألقيتُ (سنة 1990) محاضرة في جامعة ميدلبري (ولاية فيرمونت الأميركية الحدودية مع كندا) جاء من يخبرني أنّ في تلك المدينة الجبلية (ميلدبري) “كوخ” الشاعر الأميركي الكبير روبرت فروست (1874-1963). عند غروب النهار نفسه، هرعتُ الى ذاك الكوخ الخشبي العتيق الذي كان يصطاف فيه الشاعر، لأجد الكوخ باقياً كما تركه، بكامل أثاثه المتواضع، من سريره وما عليه، الى فرشاة الحلاقة، الى كتبه العتيقة وبعض ثيابه، وجميعها مرتبة ومحفوظة تحت أنظار حراس يراقبون زوار “الكوخ”. وقبل الوصول إليه: جسر قديم سمته الولاية “جسر روبرت فروست”، وحديقة عامة سمتها “حديقة روبرت فروست”، ذاتُ أشجار باسقة كان يتفيّأُها الشاعر، وعلى جذع كل شجرة لافتة معدنية محفورة عليها قصيدةٌ له.
جميع هذه المحطات نشبَت في بالي وأنا أكتب، هذا الأسبوع، مقالاً عن الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيّاب. ومن أوجع المحطات في سيرته: جنازته الحزينة الضئيلة (25/12/1964) وموته وحيداً على سرير إحدى غرف المستشفى الأميري في الكويت (ببادرة من وزير الصحة يومها أن تُعالجه حكومة الكويت مجاناً تقديراً لعطائه الشعري) بينما عائلته (صباح نهار وفاته في 24/12/1964) خرجت قسراً مطرودةً من البيت الفقير الذي كانت تسكنه، لعجزها عن دفع إيجارٍ لم تقوَ على تأمينه لأن الحكومة كانت قبل ثلاثة أشهر (عبر مصلحة الموانئ العراقية في البصرة، حيث كان موظفاً) أبلغت الشاعر قراراً جاء فيه: “استناداً الى أحكام الفقرة 30 ب من المادة 46 من قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960، نفيدك بأنه، ابتداءً من بعد ظهر 27/9/1964، انتهت مدة إجازتك المرَضية بدون راتب، بسبب تغيُّبك المستمرّ عن العمل”.
وهكذا: من حِفْظ سيف بونابارت، الى مشاركة رئيس جمهورية في جنازة شاعر كبير من بلاده، الى الحفاظ على “كوخ” شاعر كبير في بلاده، الى طرد شاعر كبير من وظيفته لأنه مريض، يتَّضح الفارق الموجع بين معاملة المبدعين في العالم الأول، ومعاملتهم عندنا، في هذا العالم التاعس الثالث… والثلاثين.