3 تموز 2007 العدد 12244 السنة 36
تغيَّب “المنشقّ” السوفياتي السابق ألكسندر سولجنتسين (بسبب شيخوخته: 89 سنة) عن احتفال تكريمي أقامه قبل أيام رئيس الروسيا فلاديمير بوتين في الكرملن (يوم روسيا الوطني) لعدد من أعلام بلاده في الأدب والفنون والتكنولوجيا، بينهم سولجنتسين (صاحب رواية “جناح السرطان”: 1968 وبفضلها نال “نوبل الآداب” سنة 1970) فبادر الرئيس بوتين الى زيارة الأديب العالمي الكبير في بيته وانحنى إليه وسلّمه مدالية التكريم (جائزة الدولة) “على عمله الممتاز من أجل روسيا” كما معتذراً إليه عما فعله به نظام الاتحاد السوفياتي السابق حين جرّده من الجنسية (بسبب روايته “أرخبيل غولاغ” سنة 1973) ونفاه من البلاد فانتقل الى الولايات المتحدة عشرين سنة (1974-1994) الى أن استعاد الجنسية الروسية وعاد مكرَّماً الى أرضه الأم.
ونهار وداع عازف التشيلو العالمي/قائد الأوركسترا مستسلاف روستروبوفيتش (27/4/2007) وصل الرئيس الروسي فلاديمر بوتين وانحنى على الجثمان مقبِّلاً يد روستروبوفيتش اليمنى (كان بها يقود الأوركسترا)، وكان قبلذاك بشهر واحد (27/3/2007) أقام له احتفالاً تكريمياً في الكرملن، كما معتذراً إليه عما فعله به نظام الاتحاد السوفياتي السابق حين نفاه من البلاد سنة 1974 (لمناهضته الدكتاتوريةَ الشيوعية) فانتقل الى الغرب 16 سنة (1974-1990) الى أن عاد مكرَّماً الى أرضه الأم.
ديكتاتوريُّو الأنظمة التوتاليتارية في العالم يتعاملون مع المبدعين في حالة من اثنتين: إما يريدونهم أفراداً مدَّاحين (ولو كذباً ومداهنةً) في بطانة الحاكم وبلاطه، وإما ينفونهم خارج البلاد. وفي عدد من الدول العربية نشهد مبدعين مداهنين في جبة الحاكم (أو بطانته أو بلاطه، لا فرق) أو مبدعين منفيين مشرذمين شرقاً وغرباً لأنهم يرفضون أن يكونوا لدى الحاكم (في البلاط أو القصر أو الحاشية، لا فرق) في مرتبة واحدة مع الخدّام والعمال والموظفين.
الحاكم الذكي هو الذي يتقرّب من المبدعين (قلت: “هو” يتقرَّب، ولم أقُل “يقرّبهم منه) فيضمن لولايته شرف مستوى راق ويضمن لاسمه خُلوداً أطول من ذكْر عدد الطرقات التي شقّها، أو الحكومات التي ألّفها، أو المراسيم التي وقّعها خلال ولايته.
وفي ذاكرة التاريخ كيف تقرَّب الرئيس الأميركي جون كيندي من المبدعين حين طلب من كبير شعراء أميركا روبرت فروست إلقاء قصيدة في احتفال تسلُّم مقاليد السلطة (البيت الأبيض-20/1/1960)، وواصل بعده الظاهرة نفسها الرئيس الأميركي اللاحق بيل كلنتون (المتأثر جداً بكيندي) فطلب من الشاعرة الأميركية مايا أنْجلو إلقاء قصيدة نهار استلامه السلطة.
عندما انتهت أعمال شق ترعة السويس سنة 1869 طلب الخديوي اسماعيل (تخليداً للمناسبة) أن يضع المؤلف الموسيقي الإيطالي جيوزيبي فيردي عملاً ضخماً لافتتاح دار الأوبرا، فوضع فيردي أوبرا “عايدة” الخالدة. اليوم: قليلون جداً يعرفون الإنجازات الأخرى للخديوي اسماعيل، أو لمهندس القناة فردينان لوسيبس، أو حتى لفيردي نفسه، لكن مئات الملايين، عند مشاهدتهم أوبرا “عايدة”، يقرأون أنها “موضوعة بتكليف من الخديوي اسماعيل”. وبذلك أرسى الخديوي لاسمه شهرة وخلوداً بفضل عمل إبداعي.
هكذا (على مثال الخديوي اسماعيل والرئيسين الأميركيَّين كينيدي وكلنتون ورئيس الروسيا فلاديمير بوتين وسواهم) فلْيفهم حُكّام العالم أنّ مستوى حكمهم يترقى خلال ولايتهم حين يتقرّبون من المبدعين، وأنّ خلودهم على الزمان تضمنه لهم نوعية المبدعين لا كمية المشاريع العمرانية والحكومات التي يشكّلونها والمراسيم التي يصدرونها والطرقات التي يشقُّونها.
وحدهم المبدعُون ينقذون الحاكم من النسيان.
الحكام… فلْيفهموا.