الخميس 2 آذار 2000
– 138 –
خلال ست سنوات منآي الأميركي المؤقت (على بحيرة الليمون- فلوريدا)، كنت أصغي يومياً إلى إذاعة خاصة لا تبث سوى الموسيقى الكلاسيكية. ونادراً ما كان يمر يوم لا يذاع فيه عمل من عزف “أوركسترا تل أبيب السمفونية”، أو يحكى عن جولة تقوم به هذه الأوركسترا في الولايات المتحدة. وأكثر من مرة سمعت حديثاً موجزاً مع قائد تلك الأوركسترا أو مديرها، وقال أن دورها، إلى الفن: “تثبيت حضور إسرائيل الفني في العالم”.
وكنت أتمزق لذلك الكلام مرتين: أولى للأسباب المعروفة أن أرى أعدائي يبثون في العالم حضورهم عن طريق الفن، والأخرى ألا تكون لنا في لبنان أوركسترا لبنانية تنطلق إلى العالم تثبت فيه حضور لبنان الإبداعي في صالات تجمع حتى مئات الآلاف من أرقى الناس، فيجمعون وينقلون إلى محيطهم أنهم استمتعوا بالأوركسترا السمفونية اللبنانية، لتكون هذه، أيضاً هذه وخاصة هذه، وجهاً حضارياً عظيماً من وجوه مقاومتنا التي يسجل أبطالنا في الجنوب وجهاً آخر مشرفاً لها حين يقدمون حياتهم على تراب الوطن كي يطهروه من رجس المحتل الغاصب ودنس سياسييه.
إلى أن تحقق لنا الحلم، وأصبح لدينا أوركسترا سمفونية لبنانية، وعلى المستوى اللائق منذ انطلاقتها.
هذا لنقول أن الإبداع، في جوهره، مقاومة كبيرة بإثبات الوجود، وبكونه سفير شعبه إلى العالم. وكثيراً ما كنت أسمع من تلك الإذاعة الأميركية، عزف سمفونيات لموسيقيين يهود، أو تسمية عازفين مَهَرة يهود، أو التأكيد على يهودية قائد الأوركسترا أو الجوالي اليهودية التي تعزف في وسطها تلك الأوركسترا، قاطفة عطف شعبها واستقطابه والتفافه حول عنصريته، حتى إذا انطلق نداء من إسرائيل، هرعت إليه الأعين والقلوب وانشدادات الانتباه.
بعد اليوم، ستكون “الأوركسترا السمفونية اللبنانية” سفيرة لنا إلى العالم الحضاري. فحيثما يكون شعب يقصد الأوديتوريوم ليصغي إلى أوركسترا سمفونية، يكون وعي على استيعاب أكبر لكل القضايا. فلينطلق اسم لبنان منذ اليوم إلى جميع القارات، وليقف نداً لند مع كبيرات الأوركسترات السمفونية العالمية، وليتهيأ قريباً برنامج مطبوع (أسطوانات) لأعمال كلاسيكية لبنانية (لبنانية، نعم) وعالمية، حتى ندخل بيوت العالم الحصاري وعلى غلاف الأسطوانة اسم “الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية”، فيدخل لبنان الإبداع إلى منازل الدنيا بعدما اعتادت منازل الدنيا ألا ترى أو تسمع عن لبنان إلا قصف جنوبه، وتدمير بنيته التحتيى، ومجازر يرتكبها المجرم الإسرائيلي على أرضه.
فيلفهم العالم أن هذا الوطن (لا “الوطن الصغير”، كما يتغرغر سياسيوه) جدير بالبقاء وحمل إرثه العريق، وتاريخه وتراثه الحضاري الذي أضيف إليه عنوان مشرق ليلة 28 شباط 2000 في قصر الأونيسكو.
فالتحية إلى رئيس أوركسترانا الدكتور وليد غلمية، قائداً ومؤلفاً كلاسيكياً وإدارياً ومبدعاً خلاّقاً.
والتحية إلى العراب محمد يوسف بيضون راعياً تحقيق هذه الأوركسترا منذ كان نائباً حتى توقيعه على معاملاته وزيراً، في مسيرة تابعها نفسه يوماً فيوماً، مؤمناً بأن هذه ثروة جديدة تضاف إلى تراث لبنان الفن والإبداع.