19 حزيران 2007 العدد 12230 السنة 36
شُكراً للدول العربية التي تتضامن مع لبنان (عاطفياً أو لوجستياً أو مالياً أو سياسياً) في هذه المحنة التي لم تَمُرّ بها دولة (في العالم) ذات نظام ديمقراطي، ولا مَـرَّ بِها وطن (في المنطقة) تتزايد فيه كل يوم نساؤُه المتَّشحات بـالسواد.
ونفهم الدول العربية التي لم تبادر بعد (كما سواها بادرت) الى استنهاض ضميرها للتضامن مع لبنان، لارتباطاتٍ وعلاقاتٍ واعتباراتٍ ليس من شأننا الخوض فيها. كما نفهم أن تكون لأية دولة أطماع بلبنان (توسُّعية أو كيدية أو انتقامية أو سياسية أو اقتصادية)، فمن طبيعة الدول التوسُّعُ والغزوُ والاحتلالُ والهيمنةُ والوصايةُ حين تتهيأ أرض دولة أخرى لذلك.
غير أننا لا نفهم أبداً كيف يتضامن بعضٌ من أهل وطن ضدَّ وطنهم وأهل وطنهم، يستسلمون لأحقاد، ويستزلمون لأسياد، فاقدين كل كرامة وشرف، يزحفون على بطونهم متوسلين الذلّ والتملُّق والمداهنة ما سوى لبلوغ مأرب سياسي أو منصب وزاري أو رئاسي أو زعاماتي، ولو على حساب وطن لهم يَخونونه وعيونهم مفتوحة بوقاحة العهر والصلافة.
في دول العالم (غير الثالث طبعاً) يعرف الخائن أن مصيره أسود. إلا عندنا في لبنان: يتباهى بعض أهل السياسة أنه يدين بالولاء (الحزبي أو القومي أو السياسي أو المناطقي) لدولة أو لأخرى خارج حدود الوطن، ما يجعل هذه الدولة تحتقرهم وتعاملهم بإذلال ولا تعطيهم من أطماعهم السياسية إلا فتاتاً يتمثل مرة بمقعد نيابي، ومرة بمقعد وزاري، وربما برئاسة “مشروطة”، ولا حرج هنا على هذه الدولة لأنها تخدم مصالحها وتستخدم لِمصالحها كل زاحف على أعتابها ذليلاً يستجدي رضاها.
ما يحصل حتى اليوم في لبنان من اغتيالات سياسية: نتيجة طبيعية لزحف سياسيين زيَّنوا للخارج أنَّ في إمكانهم خدمته وتأمين مصالحه العامة وصولاً الى مصالحهم الشخصية. وحين اصطدم هذا الخارج بالسد المنيع من مقاومة كل احتلال أو سيطرة أو هيمنة أو وصاية، لم يعُد أمام هذا الخارج إلاّ الانتقام بتجاوز عملائه الداخليين المحليين الأهليين والقيام بما يحقق شهوته في الانتقام أو تلقين الدرس أو تخريب ما لم يتمكن العملاء الأهليون من تخريبه.
هذا الواقع اللبناني دفع الكثيرين الى الهجرة، الى الكفر بالحنين ومسقط الرأس والأرض الأُم، والخروج من جحيم البيت الى أي بيت آخر، بعيد أو قريب، ذي سقف يحمي، وأمن يحامي، وأمان يتحامى بسور دولة ذات عزم وجزم وحسم. وهو هذا بعض من وجه المؤامرة: تفريغ لبنان من شبابه وطاقاته حتى يبقى أرضاً شبه مهجورة إلا من الشيوخ والعجائز، فيسهل قضمه أو كسره أو ضَمُّه أو تركيعه أو السيطرة عليه.
غير أن هذا لن يكون. ولبنان اعتاد هذا النمط من المؤامرات، وقاومها جميعاً، لأن لبنان، بطبيعته، وطن مقاوم.
“سوف نبقى، يشاءُ أم لا يشاء الغير، فاصمُدْ، لبنان، ما بك وهنُ” قال شاعر لبنان سعيد عقل (في مسرحيته “قدموس”)، و”هون رح نبقى، نسعد ونشقى” قال الأخوان رحباني بصوت فيروز.
هكذا نحن، أمام خيارين: نموت مستسلمين هاربين تاركين وطننا لقمة سائغة للطامعين، أو ننْزرع في أرضنا بِجذورٍ عميقة كأرز لبنان، وجذوع قوية كسنديان لبنان، وعراقة مباركة كزيتون لبنان.
وإننا اخترنا أن ننْزرع في أرضنا. هو هذا قدرنا. ولن يستطيعَ أحدٌ أن يُغيِّر فينا هذا القدَر.