هنري زغيب
قبل 100 سنة تمامًا (15حزيران/يونيو 1921) تكرَّست إِليزابِت كولْمَن أَول امرأَة سمراء البشَرة قبطانةً مدنية في العالم، نالت إِجازة أَميركية دولية لقيادة طائرة، وهي التي نبتَت من الفقر بين حقول القطن في تكساس، لتصبح أَيقونة النساء الأَفريقيات الأُصول في أَميركا.
ما قصة هذه الرائدة؟ وكيف اشتقَّت مسيرتها الصعبة؟
المطالع الصعبة
قصيرةً كانت حياتها (1892-1926) أَمضت منها طفولةً بائسة وصبًا تاعسًا في ولاية تكساس. كان والدها يعمل حالجَ القطن في بلدته أَتلِنْتا (تكساس)، لكن عمله لم يؤَمِّن قوت أُسرته فانتقل سنة 1894 إِلى واكْساهاسي (تكساس) حيث الطفلة إِليزابِت (أَو Bessie كما عُرفَت لاحقًا) التحقَت سنة 1898 بمدرسة ابتدائية (من غرفة واحدة) كانت تمشي يوميًّا 6 كلم كي تبلغها، ومنها تخرجت متميزة في الرياضيات، برغم تقطُّع دراستها غير مرة في السنة لمساعدة والدها بالحلج في حقول القطن.
سنة 1904 نالت منحة إِلى المدرسة الإِنجيلية. وحين بلغَت الثامنة عشرة، وكانت اقتصدَت بعض المال، انتقلَت سنة 1910 إِلى كلية “أُوكلاهوما للزراعة” في لانغْسْتُون (اليوم جامعة لانغْسْتُون الشهيرة). لكن مقتَصَداتها نفدت منذ الفصل الأَول فعادت إِلى البيت.
ولادة الحلْم
سنة 1915 انتقلَت إِلى شيكاغو لدى شقيقها، وبدأَت تعمل موظَّفةَ طلاءِ الأَظافر لدى محل للتزيين النسائي. وحين سمعت فيه يومًا حديثًا من إِحدى السيّدات عن طيَّارين عادوا مُظَفَّرين إِلى بيوتهم بعد خدمتهم في الحرب العالمية الأُولى، راحت تدغدغ خيالَها فكرةٌ بعيدة: أَن تدرس هذا الاختصاص فتصبح “قبطانة” طائرة. ولكي توفِّر المال اللازم إِلى جانب عملها، توظَّفَت نادلةً في مطعم ليليّ. لكنها فوجئَت بأَن معاهد الطيران الأَميركية لم تكن تقْبل النساء في صفوفها، ولا طلَّابًا من أُصول أَفريقية. شكَت أَمرها إِلى الصحافي روبرت آبُّوت (من أُصول أَفريقية هو الآخر) ناشر جريدة “الدفاع عن شيكاغو”، فنصحَها بالبحث عن معهد للطيران خارج أَميركا. وكي يساعدها، نشَر عن طموحها مقالًا في جريدته، فجاءتْها المساعدة المالية من رجل الأَعمال المصرفي جيسّي بِنْغا (أَيضًا من أُصول أَفريقية).
تحقيق الحلْم
راحت تأْخذ دروسًا ليلية في اللغة الفرنسية لدى “معهد بيرليتْز للُّغات” في شيكاغو، حتى تمكَّنَت من فرنسيَّتها فسافرت إِلى باريس في 20/11/1920 باحثةً عن معهد للطيران، وجدَتْه لدى معهد لو كْروتُوي (Le Crotoy شمالي فرنسا)، كانت فيه الأُنثى الوحيدة بين 12 طالبًا بيض البشَرة، وكانت الأَكثر ذكاءً وتوقُّدًا وطموحًا. ساعدتْها مثابرتُها على احتمال تمارين صعبة مْضْنية معقَّدة خطِرة (الإِقلاع في أَوضاع صعبة، الهبوط السريع المفاجئ، معرفة الأَعطال المتوقَّعَة، الطيران الليلي في ظروف مناخية شديدة التعقيد، …) فأَنجزت الدراسة في مدة قياسية: سبعة أَشهر، ونالت بطاقة “الاتحاد الدولي للطيران”. وبهذا الجهد الجَلُود والإِصرار على النجاح، حققَت حلمها يوم تسلَّمت هذه الإِجازة مؤرَّخةً في 15/6/1921 مكرِّسةً إِياها أَول امرأَة سمراء البشرة قبطانة مدَنية في العالم.
عادت إِلى بلادها في أَيلول/سبتمبر 1921 فاستقبلتْها صحافة نيويورك بالتقريظ، وسمَّتْها “الملكة بيسِّي” على أَنها “أَصغر قبطانة أُسطورية واعدة بالكثير من المفاجآت”.
وواصلت طموحها. أَرادت أَن تُنشئ معهدًا للطيران. وكي تجمع ميزانية له، أَخذَت تقوم باستعراضات في الفضاء، كان الجمهور يتفاعل معها ويشجِّعها. لكن القدر لم يشجِّعها: خطَفَها قبل أَن ترى حلمها بالمعهد يتحقق.
النهاية المأْساوية
في أَواخر نيسان/أَبريل 1926 كانت تتهيَّأُ لإِقامة عرضٍ جَوّي في فضاء جاكسونڤيل (فلوريدا) على متن طائرة جديدة قادَها لهذه الغاية مهندس الطيران وليم ويلِّيس من دالاس (تكساس) واضطُر إِلى الهبوط بها، قبل الوصول، ثلاث مرات لضعفٍ في متانة محركها. علم أَصدقاؤُها بالأَمر فنصحوها بإِلغاء العرض لخطورة التحليق بهذه الطائرة الجديدة غير المضمونة. لكنها رفضَت وأَصرَّت على إِقامة العرض من أَجل جمع المال لتأْسيس معهد الطيران.
صباح الجمعة 30 نيسان/أَبريل جلس ويلِّيس إِلى جانبها وأَقلعَت هي بالطائرة تقودها صوب بقعة كانت تنوي الهبوطَ إِليها بالمظلة جُزءًا من العرض التي تنوي القيام به في اليوم التالي! بعد 10 دقائق من الإِقلاع، توقَّف المحرِّك فجأَةً على علوّ 914 مترًا، فهبطَت الطائرة عموديًّا، وسقطَت منها إِليزابِت عن علُو 610 أَمتار مرتطِمةً بالأَرض في خبطة قاتلة. لم يستطع ويلِّيس السيطرة على الطائرة فأَكملَت هبوطها السريع وقُتِل فورَ ارتَطَمَتْ بالأَرض واشتعلَت بنثار حطامها، مُنهيةً سيرةً شُجاعةً لقُبْطانة شجاعة لم تُكمل ربيعها الرابع والثلاثين. في اليوم التالي نُقِل جثمانها المحطَّم إِلى شيكاغو، وشيَّعها نحو 10 آلاف نسمة، وفْق الصحافة المحلية.
الأُسطورة
على أَن حلمها لم يمُت معها: سنة 1929 أُنشئَ في لوس أَنجلس أَول معهد طيران لذوي الأُصول الأَفريقية، وسُمّيَت باسمها شوارعُ ومطاراتٌ ومعاهدُ ومكتباتٌ عامة في الولايات المتحدة، وفي فرنسا اليوم ثلاثة معاهد باسمها في پاريس ونيس وپواتييه.
سنة 2017 أَنتج الزوجان فيليب وتانيا هارْتْ فيلمًا سينمائيًا بعنوان “الطيران الحُر مع بيسِّي كولمان”. وكان فيليب وضع كتابًا عن روَّاد الطيران من أَصل أَفريقي، وساعدتْه في السيناريو زوجتُه تانيا (منتجة ومقدِّمة برامج تلڤزيونية).
وسنة 2018 أَنتج المخرج غاردنِر دوليتْل فيلمه الوثائقيّ “الأُسطورة – سيرة بيسِّي كولمان ” استعاد فيه ذكرى سيرة المرأَة الفريدة التي خلَّدتها أَميركا بأَلقاب “الملكة بيسِّي” و”بيسي الشجاعة”، و”رائدة التحرُّر النسائي بين السَمْراوات البشَرة”، هي التي سجَّلت اسمها للتاريخ رائدةً ومُلهمةً ورسالةً ساطعةً إِلى أَبناء جنسها، رمزًا لتحرُّر المرأَة وكسْر الصورة النمطية بلوغًا إِلى فضاء الحرية.
كلام الصوَر
- إِليزابِت وطائرتها قبل إِقلاعها المأْساوي الأَخير
- طابع أَميركي باسمِها سنة 1995 لتخليد ذكراها
- صورتها الرسمية يوم تخرَّجت في فرنسا
- بطاقة الطيران الرسمية من المعهد (15/6/1921)
- مُلصَق الفيلم الوثائقي “الأُسطورة”: “امرأَة غيَّرَت العالم”