5 حزيران 2007 العدد 12216 السنة 36
تابعَ العالم، قبل أيام، صدور القرار 1757 الخاص بلبنان، القاضي بتشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي، فيما كان يتابع ما يجري في لبنان من أحداث أمنية وعسكرية، وتردُّدات سياسية ذات صلة بتشكيل المحكمة. وأكّدت الاتصالات من الخارج بلبنانيين في لبنان، كم المخْلصون في الخارج قلقُون على أهلهم وإخوانهم وأصدقائهم في لبنان مِما يتناهى إليهم عما يجري في لبنان، حتى ليخيَّل إليهم أن اللبنانيين مُختبئون في بيوتهم، والشوارع خالية، والمؤسسات مقفلة، والدوائر معطلة، والحالة مشلولة، والحركة متوقفة، والأنشطة غائبة، ولا مكان في الساحات والأروقة إلاّ للمسلحين والمتقاتلين، وحتى عادت الى الألسن العبارة البغيضة المغلوطة التي سادت خلال حرب 1975-1990: “الحرب الأهلية اللبنانية”، فيما لم تكن حرب لبنان أهلية ولا في يوم.
غير أن الحقيقة ليست هذه، والواقع ليس أبداً كذلك. فاللبنانيون – بعيداً عن البقَع الأمنية الحذرة – يواصلون حياتهم اليومية (مع تجنُّب التجمعات الكبرى خشية السيارات المفخخة) ويتابعون تنفيذ أنشطتهم الأكاديمية والفنية والثقافية والإعلامية والاجتماعية، كأنما يقاومون الخطر بالتحدي العنيد إزاء ما يجري كي لا يعطِّل ما يجري شرايينَ الحياة في لبنان.
هذا هو التحدي اللبناني الأُعجوبي الذي أذهل العالم ولا يزال: احتمال الدمار والنشوب الى العمار. ومن يزور لبنان بعد كل جولة أمنية أو عسكرية، يذهله ما يعاينه من نهضة عمرانية وحيوية ثقافية وسياحية وفنية.
إنه العقل اللبناني المبدع الخلاَّق المتحدِّي كلَّ خطر. كأنما هذا هو قدَر لبنان: أن يولدَ أبناؤُهُ في الخطر ويعيشوا في التحدي الدائم أمام الخطر، ما يجعل العقل اللبناني لافتاً على أرضه الأم، وفي كلِّ بقعة من العالم يقطُنها أو يعمل فيها أو يزورها. ولم يعُد جديداً أن اللبنانيين منتشرون في جميع الأرض، ومعظمهم بارزون في حيثُما هم. وكم في الدول العربية والغربية لامعون متفوِّقون من لبنان في كل حقل وميدان، يَدينون بالولاء لبلادهم الأم ويدينون بالوفاء للبلاد التي احتضنتهم وتنهل من تفوُّقهم.
قيمة لبنان ليست في جغرافياهُ. ففي العالم أفرادٌ (بعضهم لبنانيون) يملك واحدُهم من الأراضي ما يفوق مساحة لبنان.
وليست قيمة لبنان في ديموغرافياهُ. ففي العالم مدنٌ يفوق سكانُ إحداها سكانَ لبنان.
قيمة لبنان ليست في الكمية بل في النوعية، ولا في الكثرة بل في الجودة، ولا في الاتّباع بل في الإبداع.
قيمة لبنان هي في العقل اللبناني، وضَعف لبنان كان (والى متى؟!) في سياسيين حكموه منذ نصف قرن، فكانوا أميين في الخلْق والإبداع، أو مدركينَهما إنما مُغْفلين أَعلامَهما كي يَظَلُّوا هم على إقطاعاتهم السياسية وسيطرتهم على ما أنشأُوه (أو ورثوه) من مزارع وقبائل وعشائر يغذُّون فيها أزلامهم ومَحاسيبهم متجنِّبين أن يعمَلوا (هل هم قادرون؟) على بناء دولة.
إنّ مقاومة لبنان الحقيقية ليست تَحرير أرضه وحسب (كما فعل مقاوموه الأبطال في الجنوب سنة 2000). ففي لبنان مقاومة ثقافية وسياحية وأكاديمية وفنية وأدبية واجتماعية ولوجستية فريدة مذْهلة ينهض بها اللبنانيون ويَحترمها أصدقاء لبنان الأوفياء من عرب وشرقيين وغربيين، مدركين أنّ وراءها مُقاوِماً لا تَردعُهُ عاصفةٌ ولا تُعيقُهُ أخطار ولا يُخيفُه تربُّص أعداء.
مقاوم اسمه… العقل اللبناني.