هنري زغيب
“هذه ثمرة انحجاري سبعةَ أَشهر في بيتي لا أَرى أَحدًا ولا يَزُورُني أَحد”.
قالتها لي بصوتٍ باريسيٍّ مخنوق، هي التي فتحت في شرايين باريس دمًا شعريًّا يغذي الأَدب الفرنسي، شِعرَه والنثر، نتاجًا غزيرًا وفيرًا تشهد له جوائز كبرى تشرِّف كل من يكتب في لغة بودلير.
كتابُ الحَجْر
قالتْها وهي تقدِّم لي كتابها الجديد “ابتعدوا عن نافذتي” (منشورات “مركور دو فرانس” – 128 صفحة قطعًا وسَطًا – پاريس حزيران/يونيو 2021)، وفيه ثلاثُ قصائد طويلة: “ابتعدوا عن نافذتي”، “مشاهد من الحياة العادية”، “بيروت 4 آب/أُغسطس 2020”. وفي ثلاثتها حنينٌ موجعٌ إِلى أَيام بيروت ونوستالجيا حارقة إِلى ما كان في لبنان وما آل إِليه اليوم لبنان.
نصف قرن بعد بيروت
وما يُحرقُها أَكثر، أَنها غادرَت بيروت (سنة 1972) وهي لؤْلؤَةُ مدن الشرق، حاملةً معها أَجمل الذكريات من طفولتها في بشَرّي جبران (بلدة مولدها كـ”ڤينوس عبدالساتر” سنة 1937)، إِلى تَفَوُّقها الجامعي اللافت بالفرنسية في مدرسة الآداب العليا (1955)، إِلى انتخابها ملكةَ جمال بيروت (1957)، إِلى زواجها من رجل الأَعمال اللبناني جوزف خوري وحمْلها اسمه (ڤينوس خوري)، إِلى إِصدارها “مجموعتَها الشعرية الأُولى بالفرنسية “الوجوه غيرُ المكتملة” (1966 – بغلاف من رفيق شرف)، فمجموعتها الثانية “الأَرض الآسنة” (سيغير – پاريس 1968)، فانتقالها إِلى پاريس قبل دمار الحرب، وسُطوعها هناك كاتبةً وشاعرةً من لبنان، زادَها زواجها الثاني من العالِم الفرنسي جان غاتا انصرافًا إِلى الأَوساط الأَدبية والأَكاديمية، تكتب الشعر في سرد أَخَّاذ وتكتب الرواية بأَبجدية الشعر، حتى استحقَّت جوائز فرنسية كبرى كثيرة (منها: جائزة أَهل الأَدب للشعر 1993، جائزة الأَكاديميا الفرنسية للشعر 2009، جائزة غونكور للشعر 2011). ومع ذلك ظلَّت بيروت في نبضها وكتاباتها قصائد وروايات، كأَن ارتباطها البَنَويّ بأَرضها الأُم ووطنها الأَول لم يغادر رعشةَ قلمها ولا طيفَ خيالها، كما بدا في مجموعتها الشعرية “إِلى أَين تذهب الأَشجار” (بعدما الحرب الشرسة في لبنان “أَحرقت الأَشجار وهجَّرَت العصافير”).
بيروت في نبضها الدائم
وظلَّ لبنان يقظتها في الحلم وفي الواقع.
سنة 1985 دعوتُها إِلى المشاركة في ندوة “الأُوديسيه” التي أَقمتُها (في غالري “دامو” – أَنطلياس) عند إِنشائي مجلتي الشعرية “الأُوديسيه” فجاءت مع قصيدة جديدة عن لبنان.
وسنة 1999 دعوتُها إِلى بيروت للمشاركة في احتفال شعري نظَّمْتُهُ (في المدرسة العليا للآداب) في سياق ندوات “بيروت عاصمة عالمية للثقافة”، فجاءت وقالت حبَّها لبيروت التي اشتاقت إِليها.
وسنة 2008 دعوتُها إِلى المشاركة في احتفال تدشين بين الياس أَبو شبكة متحفًا (مدرج زوق مكايل) فلبَّت وحملَت معها كلمة لاقت فيه أَبو شبكة وبودلير بما رَفَع عن الأَول تأثُّره بالأَخير.
وكلما كانت بيروت تحتفل بعُرسها السنوي في معرض الكتاب، كانت ڤينوس خوري غاتا عروس هذا العرس.
زلزال المرفأ
إِنه لبنان، ضالعٌ فيها حتى النفَس الأَعمق.
لذا أَفهم قولها لي “هذه ثمرة انحجاري سبعة أَشهر في بيتي لا أَرى أَحدًا ولا يَزُورُني أَحد”. وكان يمكن أَن يبقى هذا الحجْر فرنسيًّا بحتًا، لولا أَن وقَع زلزال العصر في مرفإِ بيروت، فزلزَلَ كيانها كما كيان المدينة، هي التي غادرت بيروت قبل نصف قرن، وما زالت بيروت تعيش في وجدانها بكل حنان وكل حنين، كأَنها تحتضن مدينتها في شغف الأُمومة. من هنا ما أَضافتْه لي في حديثنا عن كتابها الجديد: “انفجار المرفإِ سرَق بيروت من حضني”.
لذا، كي أُشارك القراء هذه العاطفة “الڤينوسية” حيال بيروت، أُترجم المقاطع الأُولى من قصيدتها الطويلة الثالثة (“بيروت 4 آب/أُغسطس 2020”) في كتابها الجديد (“ابتعدوا عن نافذتي”)، وفيها نشيج هذه الشاعرة التي ما إِن يُذكر لبنان في الأَدب الفرنسي الحديث، إِلَّا وتكون لؤْلؤَةُ تاجه ڤينوس خوري غاتا.
القصيدة
هنا المقاطع الأُولى من القصيدة:
نداءَاتُهم
تَرفع الحجارة، تَكْشَحُ الدُخان
يسأَلون الجدران المنهارة
أَن تُعيدَ إِليهم
الجدَّ والحفيدَ وسريرَ العروس
لكنما
صُمٌّ هي الجدران
عُمْيٌ سُحُبُ الدخان
“فلْنُعْطِ الوقْتَ وقتًا”
يقول المجانين البليغو الحكمة
ولكن…
بأَيِّ أَيدٍ تُرفَعُ الحجارة؟
بأَيِّ أَكُفٍّ يُنْبَشُ الأَحياء؟
المصابيح التي تنير بطن التراب، تُنذِر:
صعبٌ على التراب أَن يُعيد مَن ابتلَعَهم
ذلك أَنه:
يَلفُظُ السرير ويَحتفظ بالطفل
يُرجِع حقيبةَ الكُتُب ويُبقي التلميذ
يَردُّ العصا بدون العجوز
يُعيدُ ماكنة الخياطة لا الخيَّاطة
المصابيحُ والرفوشُ والأَيدي وَجَدَت الكرسيّ
ولم تجِد مَن كان جالسًا على الكرسيّ
ففي أَيِّ صفحة كان يقرأُها
لم يكن ما يُنذر بالموت الآتي إِلى بيروت
ولا أَن تتَشَظَّى الأَبنية
وتصَّاعدَ من تحت الأَرض نداءَاتٌ مذعورة
وتنجرفَ الأَنقاض مع فتات الوليمة الأَخيرة
شاخَت الكتب
ولم يبقَ من الأَحياء سوى صُوَرهم معلقةً على جدران
لو كانوا يعلمون لكانوا بجلودهم لَفُّوا أَطفالهم
لو كانوا يعلمون لَزَرَعوهم في أَرضٍ أَكثرَ ثقةً يَنْمُون مع عشبها
ولكانوا اندفنوا بأَيديهم ليوهموا الموتَ بما هو أَكثر منه موتًا
لكانوا أَقلَّ ذهولًا
ولقالوا لمن كانوا يمشون
أَن الأَرض هي التي تمشي تحت أَقدامهم
فهل يُكْنَسُ الموتى مع الأَنقاض؟
وهل يُرمَونَ إِلى البحر النابح على الأَبواب؟
مَن يتذكَّرون
يحكون عن صمت يضجُّ بالصخب
عن أَشجارٍ متكزِّزة
عن مدينة متحجِّرة
ستُّ ثوانٍ… وإِذا:
رجالٌ يتساقطون مع الجدران
نارٌ تلتهم الحجارة
أَعضاء تحترق كالجُذى
وعلى صخرة نائية
سيروي البجع ما سيروي
وللعالم أَن يصدِّق أَو يشكِّك
أَنتِ جالسة قبالة المجلى
والصحون تتقطَّر ماءً
تفكِّرين بذُعر الأَشجار وبصمْتٍ ملْتَبِس فاجأَ المتوسط
وإِذا صوتُ منشارٍ يُعيدُكِ إِلى حياتك اليومية
في الخارج رجلٌ يشذِّب العُشبَ عن السياج
وعلُوَّ الأَشجار بمواجهة الشمس
وهو لا يدري ساعتَئذٍ بأَن مدينةً انهارت
وأَنَّ شعبَها
يتنفَّسُ الدخان
والأَنقاضَ
وكَسْرَ الزجاج
وموجاتِ الغبار (…)
(ترجمة هـ. ز.).
كلام الصُوَر
زلزال المرفأ (بريشة توم يونغ)
ڤينوس خوري غاتا: عروس معرض الكتاب في بيروت
غلاف كتابها الجديد