هنري زغيب
الجزء الأَول من هذا المقال عن ڤان غوخ (“الانحجار” – “النهار العربي” – الثلثاء 25/5/2021) عالجَ بدايات انهياره صحيًّا وعقليًّا في المأْوى. هذا الجزء الثاني (والأَخير) يعالج فداحةَ وضعه الصحي والعقلي حتى انتحاره الذي ما زال ملتبِس الظروف حتى اليوم.
بعد 53 أُسبوعًا من الحجْر الطوعي في مأْوى سان ريمي، زار ڤان غوخ شقيقَه تِيُو في پاريس بضعة أَيام سريعة، انتقل بعدها (في 20 أَيار/مايو 1890) إِلى بلدة أُوڤير Auvers-sur-Oise (30 كلم شمالي غربي باريس) ليُمضي فيها آخر 70 يومًا من حياته.
هناك استأْجر الغرفة رقم 5 في نزْل راڤو Ravoux، لقاء 3 فرنكات ونصف فرنك في اليوم. وبناء على طلب شقيقه تيو، كان الطبيب پول فردينان غاشيه Gachet يَسهر على معالجته ويشجِّعه على العمل في حضن الطبيعة. وبالفعل وضع 70 لوحة في تلك البقعة الرومنسية الجميلة.
“حاولتُ أَن أَنتحر”
نحو التاسعة ليل الأَحد 27 تموز/يوليو 1890، بعدما أَنجز ڤان غوخ في حقل القمح لوحته الأَخيرة الرائعة “جذور وجذوع”، عاد إِلى النزل. رآه أَرثور راڤو صاحب النزل مضطربًا وجيعًا، ويدُه على معدته. سأَلهُ إِن كان يشكو أَلَمًا فأَجابه بصعوبة: “لا، إِنما…” ولم يُكمِل جوابه بل أَكمل هرولتَهُ صعودًا إِلى غرفته. لحق به مستفسرًا فأَراه جرحًا نازفًا من صدره وقال له: “حاولتُ أَن أَنتحر”. اتصل راڤو بالطبيب غاشيه فحضر وضمَّد الجرح البليغ وأَرسل مَن يستدعي شقيقه تيو من پاريس.
ليلتها، وهو يصرخ من الأَلم، قال إِنه كان يرسم طيلة النهار في حقل القمح، وبعد الظهر أَطلق النار على صدره من مسدسٍ فغاب عن الوعي. وحين عاد إِلى رشده مع نسيم المساء منهارَ القوى، حاول البحث عن المسدس كي يُجْهزَ على جسَده بطلْقة ثانية، فلم يجدْه. تحامَلَ على وهْنه وعاد إِلى النزْل.
بعد يومين، صباح الثلثاء 29 تموز/يوليو 1890 لفَظ نفَسَه الأَخير بين شقيقه الحزين وطبيبه الأَمين.
معظم المؤَرخين استندوا في أَمر انتحاره إِلى شهادة أَدلين راڤو ابنة صاحب النزْل. كانت يومها في الثالثة عشْرة. لكنها لم تعلن ذلك إِلَّا سنة 1953 نقلًا عما روى لها والدُها غوستاڤ عن والده أَرثور قبل نصف قرن. لكن شهادتها كانت تتغيَّر بين مرة وأُخرى.
… ولكن أَين المسدس؟
اليوم، بعد 130 سنة، ما زالت رواية الانتحار تحت مجهر الشك.
سنة 2011 أَصدر الكاتبان ستيفن نايفه وغريغوري وايت سميث (حائزا جائزة بوليتزر) كتابهما “ڤان غوخ-سيرة جديدة” وفيه فرضية صادمة: ڤان غوخ لم يُطلق هو النار على صدره بل أَطلق النارَ عليه تلميذ في السادسة عشرة كان يمضي الصيف هناك. واستندا في فرضيتهما إِلى ثلاثة شواهد: طبيعة الرصاصة الجارحة، علاقة ڤان غوخ بشقيقه تيو، ورسالة كانت في جيبه يشير نصها إِلى تفاؤُل أَبعد ما يكون عمَّن يفكِّر بالانتحار. لم تكن رسالة وداعية بل مسوَّدة رسالة كان سيرسلها إِلى شقيقه نهار الحادثة.
أَمران آخران لا يتطابقان كذلك. ليس في أَيِّ تقرير عن الوفاة كلمة انتحار، بل أَن ڤان غوخ عانى من جرح بليغ نازف لا شفاء منه. ولم يُعرَف، بالوقائع، من أَين جاء بالمسدس. ولم يجد أَحدٌ ذاك المسدس، ولا أَثرًا في مكان الحادثة لأَي أَدوات تصوير (قماشة، مَلْوَن، أَنابيب أَلوان، ريشة، …). ثم… كيف يمكن مَن حاول الانتحار أَن يظلَّ 20 ساعة يحتضر؟
أُصيب ولم ينتحر
أَشار الكاتبان إِلى أَنَّ صاحب المسدس الفتى رُنيه سِكْرِتانSecrétan (تلميذ في معهد پاريسي) حين سُئِل سنة 1957 عن الحادثة فقال أَنْ كان معه مسدسٌ تناولَه ڤان غوخ بسرعة وأَطلق منه النار على صدره. وقال إِن ڤان غوخ صَيْفَئِذٍ كان موضع إِشاعات وسخرية: يتجوَّل مضمِّدًا أُذنه المبتورة، يتعثَّر في مِشيته، يُكثر من السُكْر، ويتلعثم في كلامه بين الأَلمانية والفرنسية.
وروى رينه أَنه مرةً حادثه في المقهى عن الفن، ودفع عنه ثمن كؤْوس الخمر. وسخِر منه يومها ليُضحِك رفاقًا كانوا معه. وفي تقريره أَنكر أَي دور له في حادثة إِطلاق النار، سوى أَن الرسام تناول فجأَةً منه المسدس. وأَضاف: “كان المسدس عتيقًا يعمل مزاجيًّا ساعة يشاء، ويبدو أَنه يومئذ، في يد ڤان غوخ، شاء”. وقال إِنه غادر البلدة حين وقعت الحادثة.
وفي إِفادة صادمة أُخرى ذكر الكاتبان امرأَة من سكان أُوڤير قالت إِن ڤان غوخ كان بعيدًا عن حقل القمح حين وقعَت الحادثة.
لوحاته الواضحة أَهمُّ من السر الغامض
ويورد الكاتبان عن الناقد الفني والمؤَرخ جون ريوَالد أَنه سنة 1933 زار أُوڤير وحاور سكَّانًا محليين ما زالوا يتذكَّرون حادثة إِطلاق النار، فأَفادوا عن سماعِهم روايةَ أَن تلميذين كانا يمضيان العطلة في أُوڤير، وأَن أَحدهما أَطلق النار خطأً على الرسام، فهربا كي لا تقع عليهما تهمة القتل. ويحلِّل الكاتبان أَن الرسام رغِبَ إِراديًّا أَن يحميهما حين أُصيب وأَخذ ينزف، فارتضى الجرح مدخلًا للقضاء على حياته، ولعله اعتبر أَن طلقة ذاك الشاب أَحسنت إِليه بإِصابته كي يموت بها. واستند الكاتبان في تحليلهما هذا إِلى آخر كلمات قالها لشقيقه تيو وهو يحتضر: “لا تتَّهموا أَحدًا. أَنا شئْت أَن أَنتحر فأَظل أَنزف حتى أَموت”.
لم ينكشف حتى اليوم سبب موته، وقد لا ينكشف، إِنما – برغم خلله العقلي الذي أَدى إِلى موته – ستبقى ساطعةً عبقريتُه الفنيةُ بما أَطلعَتْ ريشتُه من روائع خالدة على الزمان.
كلام الصُوَر
- ڤان غوخ على سرير الموت بريشة طبيبه غاشيه (الصورة الرئيسة)
- نزْل راڤو حيث تُوفي ڤان غوخ في الغرفة رقم 5
- صحيفة محلية (7/8/1890) تعلن وفاة “شخص هولندي يدعى ڤان غوخ”
- “جذور وجُذوع” آخر لوحة رسمها ڤان غوخ نهار وفاته