هنري زغيب
يموت الفنان يومًا وتحيا لوحتُه بعده كل يوم. وكما المؤَلف يموت فتتولَّى دارُ النشر بعده إِحياء كتُبه، كذلك الرسام تتولَّى بعده إِحياءَ أَعماله مؤَسستان: صالةُ العرض (أَو المتحف) بمعارض استعادية، ودارُ المزاد العلني ببيع أَعماله لهواة المجموعات، فتروح اللوحة تتنقَّل من هاوٍ إِلى شارٍ إِلى متحف، فتحيا اللوحة من جديد وتزداد قيمتها المادية مرادفةً قيمتَها الفنية.
أَبرز مؤَسستَين عالميَّتين للمزاد: كريستيز وسوثبيز. الأُولى في لندن، أَسَّسها جيمس كريستيز سنة 1766 وتعمل عبْر 85 صالة في العالم على 450 مزادًا في السنة، وسنة 2017 باعت أَغلى لوحة في العالم: “مخلِّص العالم” لليونادو داڤنتشي (1499) بمبلغ 450 مليون دولار. والأُخرى أَسسها صموئيل بيكر سنة 1744، لها مركزان في لندن ونيويورك، وتعمل عبْر 80 صالة في 40 بلدًا على 350 مزادًا بين پاريس ونيويورك ولندن وهونغ كونغ وجنيڤ وميلانو وسواها.
ملايين ڤان غوخ الفقير
بعد أُسبوعين (13 أَيار/مايو المقبل) تنزل في نيويورك مطرقةُ الدلَّال في مؤَسسة كريستيز لتعلن الفائز بلوحة ڤان غوخ “جسر تْرِنْكْتايْ” (في مدينة آرل، جنوبي فرنسا)، رسَمها سنة 1888 (64×79 سنتم). حتى نهاية هذا الأُسبوع، يقدِّرُ مدير المؤَسسة أَن تباع اللوحة بما بين 25 و35 مليون دولار. وكان ڤان غوخ رسَمها (مع بضع لوحاتٍ أُخرى وضعها في آرل) قبل سنتين من انتحاره سنة 1890 في ربيعه السابع والثلاثين. بعد وفاته آلت اللوحة إِلى أَرملة شقيقه تِــيُــو، وكانت بيعت سنة 1999 لدى كريستيز بمبلغ 15 مليون دولار، ثم في تشرين الثاني/نوڤمبر 2004 بيعت في مزاد نيويوركي آخر بمبلغ 11،2 مليون دولار، وعادت إِلى متحف أُوسلو سنة 2016 في معرض لأَعمال ڤان غوخ مختارة من متحفه في أَمستردام. وها هي بعد أُسبوعين تنتظر شاريًا جديدًا.
العشيقة السرية
في أَول آذار/مارس 2012 باعت كريستيز في نيويورك لوحته “العشيقة” (1888) بمبلغ 9 ملايين دولار. وهي الأَخيرة من 12 لوحة كان الفنان أَهداها إِلى صديقه الرسام الأُسترالي الانطباعي جون راسل (1858-1930). والإِحدى عشرة الباقية (9 مناظر طبيعية ووجهان) هي اليوم موزعة بين متحف غوغنهايم (نيويورك)، متحف فيلادلفيا للفنون، متحف سانت لويس (ميزوري)، المتحف الوطني (واشنطن)، ومتحف غيتي (لوس إِنجلس).
لوحة “العشيقة” وضعها ڤان غوخ في آرل، بعدما أَنجز سابقةً لها وللمرأَة ذاتها، مستوحيًا إِياها من قصة پيار لوتي “سيدة الأُقحوان” (1887)، حول سيدة شابة عشيقة ضابط بحري في اليابان. من هنا ملامح الأُسلوب الياباني الرائج في فرنسا القرن التاسع عشر. جون راسل، بعد وفاة ڤان غوخ، باعها في مزاد پاريس 1920 ولم يذكر أَنها هدية من صديقه. سنة 1928 اشتراها الزوجان هاويا المجموعات الأَمسترداميان كورت وهنريات هيرشلِنْد. سنة 1936 طار الزوجان إِلى هولندا هربًا من محاكمة بحقِّهما، وأَعطياها إِلى جيرانهما. سنة 1943 كانت اللوحة في متحف أَمستردام سنة 1943 حتى 1956 حين عادت اللوحة إِلى الزوجين حتى 1983 حين اشتراها من ورثتهما رجل الأَعمال اللندني توماس جيبسون. وسنة 2012 فوجئَت مديرة كريستيز جيوڤانا بيرتازوني “أَن تُعرَض هذه اللوحة النادرة في المزاد، لأَن مكانها أَن تكون في متحف”.
رحلة اللوحات
في 21 آب/أُغسطس 2015 أَوقف رجال الشرطة الأَلمان رجُلًا يعرض نسخةً مزوَّرة من لوحة ڤان غوخ “الحصاد” (1888) وكان يطلب لبيعها 17 مليون دولار، وضبطوا معه وثيقة مزوَّرة من متحف ڤان غوخ في أَمستردام “تُثبت أَن اللوحة أَصلية”.
في 13 تشرين الثاني/نوڤمبر 2017 باعت كريستيز في مزاد نيويورك لوحة “فلاح يحرث حقله” (1890) بمبلغ 81 مليون دولار.
في تشرين الأَول/أُكتوبر 2020 باعت سوثبيز لوحة “زهر في إِناء” (1890) بمبلغ 17 مليون دولار. وهي كانت لدى تاجر الجواهر الپولندي أَلفرد ليندون، اشتراها من غالري لوسيرن سنة 1946، ورثها ابنُه جاك ثم باعها سنة 1950 إِلى الصناعي في فلوريدا سيلڤستر لابرو الذي احتفظ بها حتى عرضها أَبناؤُه للبيع فراحت تتنقَّل من عرض إِلى عرض في المزادات العلنية وتقطف الملايين فوق الملايين. وكان ڤان غوخ رسمَها إِبان إِقامته في أُوڤير (منطقة إِيل دو فرانس) طوال 70 يومًا وضع خلالها 70 لوحةً كانت آخر ما رسم، قبل انتحاره حين أَصابته آخر نوبة من الجنون واليأْس والهذيان، ليدخل إِلى غرفته ليلة الأَحد 27 تموز 1890 ويتناول المسدس ويطلق منه رصاصةً قاتلةً على صدره ويسقط مضرَّجًا بفقْره ويأْسه واضطراب أَعصابه.
الشهر الماضي في 25 آذار/مارس2021 أَقامت سوثبيز في پاريس مزادًا للفن الانطباعي والحديث عرضَ 31 عملًا، بينها لوحة ڤان غوخ “مشهد من شارع في مونمارتر: شقيقان على المنعطف تحت طاحونة پواڤر” (1887). وكانت هذه اللوحة اختفت نحو قرن كامل في مجموعة فرنسية. في الجولة الأُولى من المزاد وصلت إِلى 11 مليون دولار. وفي الجولة الثانية انهالت العروض من لندن وپاريس ونيويورك وهونغ كونغ، وبعد 10 دقائق من الجولة بيعت بمبلغ 15 مليون دولار.
نهاية الريشة بداية الخلود
هكذا إِذًا: يَموت الفنان يومًا وتحيا لوحته بعده كل يوم. وهكذا ڤان غوخ: كان يرسم بنَهَم غريب، حتى إِذا انطفأَ نفَسُه وتيتَّمت لوحاته وتبعثرت بين الأُسرة والأَصدقاء دون أَن يهنأْ في حياته الفقيرة ببيع عددٍ منها ولو قليل، عاد الخُلود يجمعُها له عامًا بعد عام، هنا في مجموعة خاصة، هناك في متاحف عامة، هنالك في دُور مزادات علنية. وها هي اليوم تُلاعب الملايين، يتناقلها الأَثرياء تباهيًا بها، واعتزازًا بتوقيع صاحبها الراقد منذ 131 عامًا في قبر عتيق خلف كنيسة عتيقة في بلدة أُوڤير.
كلام الصور
- ڤان غوخ: فلَّاح يَحرُث أَرضه (1890)
- جسر تْرِنْكتايْ (1888)
- زهرٌ في إِناء (1890)
- الحصاد (1888)
- العشيقة (1888)
- شارع مونمارتر (1887)
- اللوحة يعلقها موظفا سوثبيز قبل المزاد