هنري زغيب
يحدُثُ أَن يعرف أَهلُها، ويتباهَوا بها، أَنها عاصمةٌ ثانية لمصر وكانت الأُولى ذات فترة مُضيئةٍ من التاريخ، وأَنها عروس البحر الجميلة غربي الدلتا، وأَنَّ في ذاكرتها القديمة منارةً علَت نحو 120 مترًا فكانت إِحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وأَنَّ فيها مكتبةً هي بين الأَقدم والأَهم في التاريخ الثقافي، وأَنَّ فيها كنوزًا نادرةً تشهد على فرادتها منذ أَسَّسها المقدوني الإِسكندر الكبير (331 ق.م.).
غير أَنَّ ما لا يَحدُث غالبًا أَنْ يعرف أَهلُها وسيَّاحها ما في صفحات الإِسكندرية القديمة من معالـمَ وأَعلام وعلامات تجعل لها أَمسًا ثقافيًّا وحضاريًّا ساطعًا في ذاكرة التاريخ، إِغريقيًّا وفرعونيًّا ورومانيًّا حتى كانت ملهمة الكثيرين من كبار المبدعين في غير حقل.
مكتبة على خُطى أَرسطو
بعدما جعلها مؤَسسُها ميناءً دفاعيًا وتجاريًّا رئيسًا، وكرَّسها خليفته بطليموس الأَول بديلةَ نجمة اليونان الآفلة والعاصمةَ الثقافية الفكرية في العالم القديم، لم تعُد تنازعُها مدينةٌ حتى أَواسط القرون الوسطى. كان بطليموس تلميذ أَرسطو الذي أَسَّس (نحو 335 ق.م.) مدرسة “ليسيوم أَثينا” جامعًا فيها مكتبةً كانت متحف العصور القديمة بجمعه فيها كتبًا ولقيَّاتٍ أَثرية نادرة زرع حبَّها في تلامذته، حتى إِذا وصل بطليموس إِلى حُكْم الإِسكندرية واصل تلك النزعة الحضارية فجعل من الإِسكندرية واحةَ فكر وثقافة أَثرى بها العالمَ القديم فكانت حُجة ومحجة.
من تلك التأْثيرات الأَرسطوية الثقافية أَنشأَ بطليموس مكتبة الإِسكندرية وأَسند إِدارتها إِلى ديميريوس الفاليروني (تلميذٌ آخَر لأَرسطو في “الليسيوم”)، فجمع فيها ما لم يعُد موجودًا إِلَّا فيها، ساعده ما كان متوفِّرًا لبطليموس من قدرات مالية عالية، فراح يشتري المخطوطات من جميع مدن العالم القديم. وواصل خلفاءُ بطليموس بعده هذه الرسالة الحضارية فكانوا يُرسلون علماء إِلى جميع أَقطار العالم ينسخون الكتب على نفقة الدولة ويعودون بها إِلى مكتبة الإِسكندرية. وكان في القانون أَنَّ على كل سفينة ترسو في ميناء الإِسكندرية فرضَ أَن تُنْزل ما فيها من مخطوطات ينسخها النُسّاخ، حتى بلغت كنوز مكتبة الإِسكندرية نحو نصف مليون مخطوطة.
مرفأُ التجارة والمخطوطات
وما جعل للإِسكندرية القديمة ذاك الوهج وزاد في غنى مكتبتها حتى أَصبحت نقطة استقطاب ثقافية، توافُدُ الإِغريق إِليها بتشجيع من بطليموس، فتنبَّهَت أُمم أُخرى إِلى أهميتها وجعلَت تُرسل إِليها وفودًا وأفرادًا. وغَنِيَت المكتبة بالنصوص المصرية القديمة واليونانية المنقولة عن العبرية، فتوسَّع عملُ المترجمين ينقلون أَعمالًا مكثفة من لغات قديمة عدة، فغدَت الإِسكندرية قطبًا محوريًا متعدِّد الثقافات في تلك الحقبة الرومانية السحيقة، زاد من وهجها مرفأُها الذي تحوَّل مركزًا تجاريًّا ضروريًّا منذ عهد بطليموس حتى سقوط الأَمبراطورية الرومانية، فعرفت الإِسكندرية ازدهارًا اقتصاديًّا عامرًا، وراجت فيها تجاراتٌ موصولة، منها تجارة ورق البردي لنَسخ المخطوطات فاستقطبت المدينة المهتمين من جميع أَقطار العالم.
ولم تكن المخطوطات وحدها عاملَ جذب إِليها بل ما كان فيها من كنوز جعلتها متحف العالم القديم حتى سميت “معبد المتاحف والعلوم”. كان العلماء يلتقون في ذاك “المتحف” يتداولون في شؤُون الرياضيات والفلَك والجغرافيا والآداب. وخصَّصت دولة بطليموس، وبعدها العهود الرومانية التالية، مكافآتٍ ماليةً للمفكِّرين جعلتهم يُقْبِلون جادِّين على الأَبحاث، تساعدهم تسهيلات كانت تُسدى إِليهم من الدولة. وتقاطرت إِلى الإِسكندرية آثار وحُلى وحِرَفيات وذخائر متنوعة من أَطراف العالم، على صورة ما كان في “ليسيوم” أَرسطو. وبذا يَسِمُ المؤَرخون الإِسكندرية بـــ”أَكبر مركز ثقافي فكري في العالم القديم”.
ريادة في الطب القديم…
من العلوم المتداوَلَة والمتناوَلَة فيها: الطب الذي بلغ أَوجَه زمن حكم الملوك البطالسة، فأَخذ طلاب الطب يقصدونها من كل العالم لدراسة أَحوال الجسم البشري استنادًا إِلى نماذج حية أَمامهم، وخصوصًا لشهرة المصريين القدامى وخبرتهم في تحنيط المومياءَات. وشجع على ذلك أَمْر مَلَكي كسَر محرَّمات أَديان قديمة كانت تمنع العمل على الأَجساد البشرية الحية. وزاد من رواج التقدُّم الطبي ما توافر من مخطوطات عن الطب في مكتبة الإِسكندرية عبر عصور متتالية، انطلاقًا من أَبحاث العالِـم هيروفيليوس حول الجهاز العصبي وأبحاث أُخرى عن الدماغ والجهاز البصري والدورة الدموية وآلية عمل القلب، ما كان رائدًا فترتئذٍ في نوعه في العالم.
… وفي الهندسة…
وإِلى الطب ازدهر في الإِسكندرية علْم الرياضيات والهندسة بعدما أَخذ خبراؤُهما يفِدون إِليها من معظم أَقطار العالم الإِغريقي الشاسع. راجت تعاليم إِقليدس وكتابه “العناصر” الذي ما زالت أَفكاره رائجة حتى اليوم. كما راجت تعاليم أَرخميدس فساعدت على حل معضلات كثيرة، بينها جرُّ المياه من القمم، وتركيب رافعات تعمل على ضغط المياه فتساعد في البناء. وبفضل تقدُّم الرياضيات أَمكن بناءُ منارة الإِسكندرية بإِشراف المهندس المعماري سُوسْتْرادُوس يعاونه فريق واسع من المهندسين. وساعد بناؤُها عند طرف جزيرة فاروس على حماية المراكب وهدايتهم بفضل الأُسطوانة الكبرى عند أَعلى المنارة على ارتفاع نحو 400 قدم، فتبدو للبحارة من بعيد في عمق البحر. ومن العلوم والفنون: ازدهرت في الإِسكندرية العروض المسرحية والاحتفالية بفضل تسهيلات وفَّرها تقدُّم علم الفيزياء في إِيجاد الأَبواب الدوارة والنوافير العالية القائمة على ضغط الهواء.
… وفي علم الفلك والفلسفة
وكان في ذاك “المتحف” الشامل أَيضًا مرصد الإِسكندرية، يحصي النجوم والكواكب، ومخطوطات في هذا العلْم. وظلَّ فيها نموذج النظام الشمسي الذي أَوجده أَرستارخوس (من جزيرة ساموس) سائدًا حتى مجيء كوبرنِكوس في القرن السادس عشر. كما بقيَت اكتشافات علماء الفلك في الإِسكندرية سائدة مئات السنين بعدهم. وقبل اكتشاف التلسكوب كانوا يعتمدون الإِسطرلاب والدِيُوﭘْـترا (لقياس قوَّة العدسة) وكُراتٍ جغرافيةً متعددَة الحلقات ساعدت على اكتشاف عدد كبير من النجوم.
مع أَواخر العهد الروماني تنافست الإِسكندرية مع أَثينا على صدارة تدريس الفلسفة، في تعاليم أَفلاطون وفيتاغوراس، فقصَد الإِسكندريةَ كثيرون من مُريدي ذينِك الفيلسوفَين، فوُلِدَت الأَفلاطونية المحْدثة والفيثاغورية المحْدثة وكان لهما أَثر بالغ في ذاك الجيل. ويرى المؤَرخون القدامى أَن تعاليم الأَفلاطونية المحْدثة في الإِسكندرية خلقت أَجيالًا متتاليةً من حكماء ظل تأْثيرهم ساطعًا حتى القرن السابع للميلاد.
مع دخول العرب الإِسكندرية سنة 641، بعد غرقها في الطوفان الكبير واحتراق مكتبتها وتهدُّم منارتها في الحروب المتعاقبة، خفُتَ وهجُ الإِسكندرية لكن تأْثيرها اللاحق ظل عاليًا وطويلًا، وكان ذا أَثر كبير على النهضة في العصر الإِسلامي الذهبي مع انتقال المحجات الثقافية إِلى دمشق وبغداد.
كلام الصُوَر
– منارة الإِسكندرية: إِحدى عجائب الدنيا السبع
– بقايا مدرج روماني قديم في الإسكندرية اليوم
– أَرسطو مُلهِم بطليموس لتأْسيس مكتبة الإِسكندرية
– “كتاب الموتى” من ذخائر مكتبة الإِسكندرية
– أَدوات طبية قديمة في متحف الإِسكندرية
– بطليموس على قطعة معدنية قديمة