هنري زغيب
من الرسامين من يشتهرون بلوحاتهم الزيتية ومنهم بالمائية. الأَميركي جون سِنْغِر سارْجِـنْـتْ (1856 – 1925)، ترك نحو 900 زيتية و2000 مائية، لكنه اشتهر بلوحاته الفحمية (نحو 750) رسم فيها وجُوهَ أَعلام من عصره كرَّستْه “رائد رسم الوجوه في زمانه”.
إِصبع الفحم أَسهل من الريشة
ولد في فلورنسا لأَب أَميركي، درس الرسم في پاريس (معهد الفنون الجميلة)، وشارك في “معرض باريس 1884” بلوحته “مدام x” فأَثار فضيحة في الأَوساط الپاريسية لجرأة عُري الكتفَين وبعض الصدر في تلك اللوحة (وهي صورة السيدة ڤرجيني أَڤينْيُو غوتْرُو)، ما دفعه للانتقال إِلى لندن، ومنها تنقَّل في عدد من العواصم والمدن الأُوروپية والأَميركية مواصلًا شهرتَه على ضفتي الأَطلسي “رسامَ وجوه” مبدعًا.
قبل أَشهر أَقام له متحف مورغان (نيويورك) معرضًا مخصصًا لرسومه بالفحم، فكانت تلك ظاهرة فريدة في سياق المعارض، للإِبداع المذهل فيها دقةً وتصوير ملامح.
كان جون غزيرَ إِنتاج الأَعمال الزيتية والمائية، لكنه بدءًا من 1907 طلَّقها وأَمسك بالفحم يرسم به الوجوه غير منتظر طلبات لرسم وجوه الأَغنياء والمشهورين، مع أَنه جمع من رسمهم ثروة دسمة لشهرته بينهم في رسم الوجوه.
وجد أَن الرسم بالفحم، وبالأَسْوَد دون أَيّ لون، أَسرع وأَسهل: ففي ثلاث ساعات يمكنه رسم وجه كان يستغرق لرسمه بالزيت ثلاث عشرة ساعة، وبالفحم تكون الصورة أَصغر حجمًا. هكذا أَنجز نحو 750 رسمة بالفحم، بعضها مدفوع والآخر كان يهديه لمن يجلس أمامه كي يرسمه. ومن رسمهم كانوا غالبًا فنانين أَو أُدباء أَو ممثّلين أَو سياسيين أَو أَعلام مجتمع، والباقون من أَصدقاء الأَقربين.
وجوه السيدات أَكثر
يغلب على فحمياته أَنها صوَر سيدات كنَّ يطلبنها منه، ومعظمهنَّ من الميسورات في مجتمعهنّ. وكانت أَعماله سجلًّا واضحًا للأَوساط الاجتماعية والثقافية البريطانية (الأَرستقراطية) والأَميركية (طبقة رجال الأَعمال الجُدد) في السنوات الأُولى من القرن العشرين.
بين تلك لرسوم ما كان يُعرَف صاحبه فورًا (ونستون تشرشل، جورج كليمانصو، هنري جيمس، وليم باتلر يـيـتس، الممثلة الأَميركية إِيتِل باريمور، …) وبعضها كان يستوجب ذكْر صاحب الوجه.
أَحد الذين رسمهم، كتب إِلى صديق له واصفًا كيف رسَمه سارْجِنْت: “كان يعمل بحركة سريعة. أَجلسني على كرسي أَمامه قرب سيبة الرسم، ثم راح يمشي إِلى آخر القاعة، ثم يعود إِلى السيبة يضع على الورقة بضعة خطوط بإِصبع الفحم، ثم يعود إِلى عمق القاعة، يتأَمل الرسم ويتأَملني… وهكذا مرارًا حتى انتهى من رسمي بأَقلّ من 3 ساعات”.
تفاصيل بدون أَلوان
صحيح أَن حجم الرسوم بالفحم كان أَصغر من قماشة اللوحة الذاتية، إِنما أَكبر من حجم ورقة التخطيطات والتجارب. في بعضها يظهر الرأْس والكتفان وخلفهما تماوجات وخطوط خفيفة بالفحم أَو بقية مساحة الورقة البيضاء، ما يخلق تضادًّا جميلًا مع أَسْوَد الفحم في الملامح. وتتميَّز رسماته الفحمية بقلَّة التفاصيل في الخطوط، عكس لوحاته الزيتية التي كان الوجه فيها جزءًا من اللوحة بين أَجزاء أُخرى كالقبعة أَو الشعر أَو الثوب أَو أَيّ تفاصيل أُخرى، بينما رسْمُ الوجه بالفحم يتركَّز على ملامح العينين والوجه فقط. فما يمكن أَن تغطيه الأَلوان بالريشة في اللوحة الزيتية، يفضحه عُريُ الخطوط بإِصبع الفحم إِن لم يكن الرسَّام متمكِّنًا ببراعة فائقة. وهو ما أَثبتَه جون سارجِنْت في فحمياته بخطوط أَقلَّ وتعابيرَ أَكثر في العينين والملامح. وهنا عبقريته الفريدة التي جعلتْه يشتهر رائد عصره بفحمياته أَكثر مما بزيتياته ومائياته. وهذا ما جعل فحمياته تتوزع على معارض ومتاحف في أُوروپا وأَميركا والشرق الأَوسط، ما أَعاد له اعتبارًا لم يذُقْهُ واسعًا على حياته لأَن النقَّاد، حتى مطلع القرن العشرين، كانوا يعتبرون أَعماله الفحمية دون أَعمال سواه الزيتية والمائية، خصوصًا في سنوات شبابه الأُولى. لكنه عاد في العقود الأَخيرة من حياته فأَثبت أَن أَهمية إِصبع الفحم قد تفوق الريشة حين يتناوله رسام مبدع متمكِّن.
هل تسمحين سيّدتي؟
حين لم يكن يرسم وجهًا بطلبٍ من صاحبه، كان هو يختار من يرى فيهم/فيهنَّ ملامح يحب رسمها. كما حصل سنة 1903 مع الممثلة الأَميركية الشهيرة إِيتِل باريمور (1879 – 1959) إِذ أَرسل لها على قصاصة صغيرة: “هل من الممكن أَن تمنحيني من وقتك الغالي ساعة أَو ساعتين على الأَكثر؟ رغبتي أَن أَرسمكِ بالفحم وأُهديك الرسم فور انىتهائي منه”.
اللافت أَن سارجِنْتْ الذي وضع مئات الأَعمال بين زيتية ومائية وفحمية، قلَّما وضع رسمًا ذاتيًّا، لأَنه كان “يضجر” من ذلك كما كتب يومًا لأَحد أصدقائه. وحين فعل ذلك، رسم وجهه مزدوجًا سنة 1902 في لحظتين مختلفتين بالياقة الأَنيقة ذاتها التي كان يحب أَن يخرج بها على الناس.
توفي سارجنت في لندن، وأَخذَت أَعماله تتوزع على الصالات والمجموعات الخاصة، وتنتشر شهرته في العالم، وهو ما كان يتمنى أَن يذوقه في حياته. لكن قدره كان قاسيًا فانطفأَ في التاسعة والستين، تاركًا إِصبع الفحم يروي وجوهًا وملامح قلَّ أَن روتها ريشة بدون اللون والفروقات اللونية، وهذا ما كرَّس جون سارجِنْتْ أَحد أَندر رسامي الوجوه في العالم.
كلام الصور:
- جون سارجِنْتْ: رسم ذاتي مزدوج (1902)
- مدام x الرسم الفضيحة (1884)
- الليدي ديانا مانِرْز (1914)
- ونستون تشرشل 1925
4.الموسيقي الأَميركي إِرنست شِلِنْغ (1910)
- جورج كليمانصو