في مثل هذا النهار، قبل 77 عامًا، كانت بلدةٌ هانئةٌ هادئةٌ تودِّع في حزنٍ كثيرٍ شاعرَها الذي انقصَف قبل أَن يُكمِل ربيعَه الثالث والأَربعين… تلك البلدة: زوق مكايل. وذاك الشاعر: الياس أَبو شبكة.
وفيما كان الموكبُ يسيرُ بالنعش إِلى الضريح المستعار، كانت سيِّدةٌ بكامل أَناقةِ الحزْن الفاجع تقفُ عند الـمَطَلِّ من البلدة، تراقبُ الموكبَ السائرَ بالنعش الأَبيض تحت المطر الحافي، وتستعيدُ ما قاله لها شاعرُها في سنوات الحب العاصف الذي كان ممنوعًا عليه وعليها، ومع ذلك لم يحبِس عصْفَه في قلبه بل باح به في نزْف الحرمان:
أَنتَ يا ربِّ ما خلَقْتَ جمالًا مثلَها في الملائكِ الأَنقياءِ
أَنتَ يا ربِّ ما خلَقْتَ نساءً مثلَ ليلى نقيَّةَ الأَحشاءِ
ربِّ صُنْها وأَبقِها ليَ ظلًّا من حنانٍ يمتدُّ في صحرائي
وتعودُ ليلى إِلى بيتها، تَتَنَسَّكُ فيه بعيدةً عن العالَم البرَّاني، مغْلِقةً قلبَها إِلَّا على ذكرياتٍ مع شاعرها الذي غابَ إِلى الأَبد ليَنبُضَ في قلبها دون خوفِها الراعبِ من السوى، من الأَقربين والأَبعدين، من العيون الـمُراقِبَة والأَلسُن النمَّامة الخبيثة، من الأَولياء والحرَّاس الذين لا يفهمون عصْف الحب في الزمن الممنوع.
تَتَنَسَّكُ ليلى في صمتها، وتسترجع أَيامًا ليلكيةً سرِّيَّةً مع شاعرها الذي، ذاتَ يوم، طلبَ منها أَن تختلي عند ربوةٍ في الزوق قبالة بيتها وأَن تسْكُبَ مشاعرَها على الورق، فكتبَتْ ما سكبَه في قصيدةٍ على اسمها تقول له فيها:
حبيبي، على هذه الرابيَه أُحسُّ خيالَكَ يَرقى بِــيَه
فأُغْمضُ – إِلَّا على ما تُحبُّ روحُك – قلبي وأَهدابِــيَه
بروحكَ مغمورةٌ يقْظتي ونَشوى بسحركَ أَحلامِـيَه
وحُلمي بحبكَ لا ينتهي وهل تنتهي الغفلةُ الواعِـيَه؟
إِذا هجَر الحبُّ دنيا القلوب فما تَنْفَع الحِطَمُ الباقِــيَه؟
تَتَنَسَّكُ ليلى وتتذكَّر كيف قبْلها كان شاعرُها في صحراء العمر ويخشى أَن يخطِفَه العمر قبل أَن يعرفَ الحب، فباح لها:
وكنتُ على الجفاف ومن قنوطي يَفيضُ على دمي ظلٌّ شقيُّ
أَتيتِ من السماءِ عليكِ ظلٌّ… ومن أَغراسها خَضَرٌ طريُّ
وتتذكَّر كيف حبُّها غمَرَهُ بالحنان، فباحَ لها بحنانٍ مماثل:
أُحسُّ خيالي في خيالكِ جاريًا وروحَكِ في روحي وعقلَكِ في عقلي
كأَنكِ شطرٌ من كياني أَضَعتُهُ ولَمَّا تلاقينا اهتديتُ إِلى أَصلي
تَتَنَسَّكُ ليلى وتَشعر أَنَّ غياب حبيبها الشاعر فتحَ لها نافذة الباقي من عمرها كي تعيشَ معه وحدَها دون الخوف من الآخرين.
وتسترجع عاليًا ما لم يكن ممكنًا لها أَن تقولَه قبلًا بسبب الآخرين، فتردِّد له يوميًّا في صمتها:
يا حبيبي، سيملأُ الحب سجني فَلْيَشِيدوا الحصونَ والأَسوارا
إِنَّ بيتًا على الجمال بنَيناهُ لَـــتَأْبى السماءُ أَن ينهارا
يا حبيبي كما حيِيْتُ سأَحيا إِن بي من نعيمِكَ استمرارا
وعلى كل شَفْرةٍ من جُفوني منكَ عرْقٌ يحرِّقُ الأَبصارا
كلَّما غَرَّق الظلامُ عيوني أَطلَع الحبُّ في دمي أَنوارا
كان ذلك مثلَ اليوم، تمامًا مثلَ اليوم قبل 77 عامًا، في الثامن والعشرين من كانون الثاني 1947، وكانت زوق مكايل تُودِّع في حزنٍ كثيرٍ شاعرَها الذي انقَصفَ قبل أَن يُكمِل ربيعَه الثالث والأَربعين.
وكانت يومَها سيِّدةٌ بكامل أَناقةِ الحزْن الفاجع، تقفُ عند الـمَطَلِّ من البلدة، تراقبُ الموكب السائرَ بالنعش الأَبيض تحت المطر الحافي، مقهورةً أَنْ خسرَتْ حبَّها قبل أَن تعيشَه في حُريةٍ خارجَ الزمن الممنوع.
لكنه، قبل رحيله، كان طمْأَنها أَنَّ حبَّها وحدَه هو الحب:
سوف تذوي التيجانُ يا ليلَ، والسلطانُ يَذْوي جبينُه المعصوبُ
وعلى مفْرقي وقلبي سيبقى غُصنُكِ الرطْبُ… وهو حيٌّ رطيبُ
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com