وليد غلمية تستذكره الأوركسترا:
مقاطع ثلاثة من أعماله السمفونية
هنري زغيب
(“النهار” – الثلثاء 21 حزيران 2011)
كأنهم جاؤوا إليه يتذكّرونه، ويستحضرونه من غيابه.
كأنهم جاؤوا ينتظرونه في انحناءته الأخيرة عند التصفيق الأخير.
ولَم يَخيبوا. فهذه صورتُه الكبيرةُ فوق الموسيقيين، تنبسطُ منها عليهم هالة المايسترو الذي اعتادوا إشارة عصاه كي تنطلق السمفونيا.
كثيرين جاؤوا: في عيونهم غصّة، وفي صمتهم وُجُوم.
كأنما له جاؤوا، لا للأوركسترا، فيتفقّدونه هو لا لأنهم بدونه افتقدوا الأوركسترا الفلهارمونية التي أنشأها ورعاها، وها هي تستحضره الليلة برنامجاً سمفونياً كاملاً في ثلاثة أقسام من توقيع وليد غلمية.
هاروت فازليان قاد الأوركسترا في القسم الأول: سمفونيا “الفجْر” في حَرَكَتَيها الثالثة والرابعة. وهي سمفونياه السادسة والأخيرة (2007)، أهداها يومها “إلى العقل النيّر والإلهام المتفرّد الذي يستشرف المستقبل برؤيا وواقع معاً، بكلّ ما في التفرُّد من تصوّر وإنْجازات”. من هنا جاء الفجرُ فجرَ الآمال والألوان والأنوار، فجرَ الطموحات واليقظة والنهضة، فجرَ الوعي الإبداعي والتربوي والثقافي، وهو ما تَخنقُه في شعبنا مُمارسات السياسية اليومية. أرادها “حكاية الفرح والحزن واليأس والحرمان”. ولذا، وفاءً لغيابه القاهر، اختارها فازليان تحية له، وقاد موسيقيّيه بتَأثُّر واضح وهو يدير ميلودياها المطعّمة بنكهة شرقية، تطرّزها حركةٌ تصاعُدية لولبية وتماوجاتٌ دورية ذاتُ هالةٍ وفخامة تزيدهُما آلاتُ الإيقاع والضرب والنقر وترفُدُها آلاتُ النفخ غلافاً للوتريات المحيطة.
ڤُوْيْتْشِك تشيپل قاد الأوركسترا في القسم الثاني: سمفونيا “الشهيد” في حركتَيها الثانية (تَأَمُّل وصفاء) والثالثة (حرية). وهي السمفونيا التي وضعها غلمية سنة 1981 في أربع حركات، أولاها “وهج” ورابعتُها “الشهيد”. وتَجَلّت في حركتِها الثانية ميلوديا مستقاةٌ من الفولكلور العراقي (أصلاً وضعها غلمية بناءً على طلب وزارة الثقافة في العراق). وواضحةٌ فيها مقاطع الشجن (مع آلات النفخ، كأنّها في موكب تشييع جنائزي)، ومقاطعُ أخرى فيها الْتفاف ميلوديّ دائري يتكرّر بين فاصلة وأخرى حتى تصدح (في الحركة الثالثة) صرخاتُ الحرية مدوّيةً عاليةً، في خاتمة تصاعُدية كما إطلاق أجنحة من قيودها. ويبقى النص السمفوني متماسكاً مشدود الإيقاع، وهذه خصيصة واضحة في كتابات غلمية السمفونية.
القسم الثالث والأخير “حوار عاشقَين” قادَهُ المايسترو نفسُه، من فوق، من صورته الكبيرة فوق الموسيقيين الذين أخذوا إشارة البدء من عازف الكمان الأول ميشال خيرالله. وانطلقوا في هذه الحوارية الجميلة التي وضعها غلمية لإحدى مسرحيات فرقة كركلاّ. وهي ذات نكهة شرقية يتبادل حواراتها عاشقان (مع العُود والقانون والدَّف) على إيقاع آلات النقر المتمازجة رَفَّاتُها مع وتريات تجعل حوارَ الحب دافئاً حنوناً في حميمية اللقاء، ينتهي على إيقاع فرحٍ في زوغة الكمانات.
يَسكتُ العزف. يقف الموسيقيون. ينفجر التصفيق في الكنيسة (القديس يوسف للآباء اليسوعيين، حيث أمسيات الأوركسترا المعتادة). يَطول التصفيق. يطُول. دموعٌ في عيون الموسيقيين. دموعٌ في عيون الحضور. يطُول التصفيق بعد. كأنما جميعُهم ينتظرونه، ينزل من الصورة الكبيرة فوق، يقفُ كالعادة على منصّة القيادة، ينحني شاكراً، ينحني بعد ولا ينتهي التصفيق. وحين يَضمُّ عصاه إلى صدره ويغادر، يواعدُهم بالرُّجوع في الأمسية التالية.
لكنّ غصَّتهم هذه المرة: يَقينُهم أنه، في الأمسية التالية، لَن يعود.