هنري زغيب
بعد يومين (هذا الأَحد 8 آب/أُغسطس) تنتهي في طوكيو الأَلعابُ الأُولِمپية التي تشْغل جُلَّ الكرة الأَرضية منذ 23 تموز/يوليو الماضي. وتعود بعدها اليابان من الحدَث الآني العابر إِلى الحالة الدائمة: تراثها العريق، ومنه ورق “الواشي” الذي دخل سنة 2014 لائحة اليونسكو لــ”التراث الإِنساني غير المادي”.
التراث القديم والتسمية
في العدد الحالي (آب/أُغسطس) من المجلة العلْمية العالمية “ناشيونال جيوغرافيك” دراسة مطوَّلة عن صناعة ورق اليابان (“الواشي”) انطلاقًا من دخوله لائحة اليونسكو التي برَّرَت دخوله بأَن “المواطنين الذين يعيشون من هذه الصناعة يفخرون بهذا التراث الحِرَفيّ على أَنه رمز هويتهم الثقافية”.
أَصل الكلمة: “وا” (أَي: اليابان) و”شي” (أَي: الورق). وترقى صناعته الحِرَفية اليدوية إِلى القرن السابع. فرادتُهُ أَنه رقيق وليِّن وفي الوقت ذاته قويٌّ وصلْب ومتماسك.
وهذا الفخر ليس باستخدام الورق ورواجه ومميزاته، بل كذلك بِـحِرَفيَّة تصنيعه يدويًّا، وهي المميَّزة ولعلها الفريدة في العالم، باستخدام ثلاثة عناصر: ورق التوت، الماء، نبْتة النيري (صمغية غنية بالأَلياف تجعل التماسُك أَكثر انشدادًا ومتانةً والتصاقًا)، ما يجعل من صناعة هذا الورق تراثًا يابانيًّا فريدًا.
هذا الورق لا يُستعمل للكتابة وطباعة الكتب وحسْب، بل كذلك للَّافتات الكبرى خارجًا، وللأَبواب والفواصل بين المساحات داخلًا. ولذا يهتم به المعنيون في جميع مراحله كي يحافظوا عليه إِرثًا ومصدَرَ رزق، من زراعة التُوت إِلى توارُث تقنياته جيلًا بعد جيل، إِلى انبثاق صناعات رديفة أُخرى منه، إِلى الترويج لها وطنيًا ودُوَليًّا. أَما المعنيون به فثلاث فئات: الأُسَر الحِرَفية التي تتوارثُهُ، الجمعيات التي تحتفظ به وتحافظ عليه، والبلديات المحلية. فمن شأْن هذا “الواشي” أَن يخلق التضامن بين السكَّان الذين يتعاطونه.
إِمكانات استعماله
في تقْنية تصنيع “الواشي” أَن أَوراق التوت، وهي الغنية بالأَلياف، تُغَمَّس بالمياه الصافية الجارية (ساقية أَو نهر) لوقت غير قصير، ثم تُصَفَّى في منخل خاصٍّ من القصب.
هذه الصناعة ترافدت مع انتشار تقْنيات “ورق الحرير” لدى الصينيين واستعماله في التقاليد البوذية والكتابة والطباعة وسائر أَوجُه التراث في كوريا ولاحقًا في اليابان. وبلغَت قوة تَمَاسكه وصلابته أَن استُعمل في الحرب العالمية الثانية في صنع آلاف الكُرَات الطائرة الحارقة التي طيَّرتْها اليابان ووصلت حتى الولايات المتحدة موقِعَةً فيها ضحايا.
يعدِّد الخبراء تصنيع نحو 400 مُنتَج من هذا الورق. فهو يحتمل الرسمَ بالحبر الصيني وبالأَلوان وبالكتابات، وصنْعَ بطاقات الدعوة أَو المعايدة، أَو تغليفَ العُلَب الكبيرة، أَو صنْعَ الأَبوابِ الجرَّارة أَو النوافذِ الشفافة، أَو تغليفَ الهدايا، أَو أَوراقَ النعي، أَو طياراتِ الورق، كما يمكن استعمالُه لصنْع بعض الأَواني والأَدوات ذات الخدمات المختلفة مثل الطاسات والقصعات والمظلَّات والمعاطف المشمَّعة المضادَّةِ اختراقَ المياه، والمصابيح والمراوح اليدوية وسواها. ويستعمله المهندسون لتغليف أَجزاء معيَّنة من أَجنحةٍ للطائرات يجب أَلَّا تتأَثَّر بعوامل الأَمطار والعواصف والرياح الشديدة التي على الطائرة أَن تقاومها في عبورها طيَّاتِ الفضاء.
جميع تلك الميزات بفضل أَلياف متينة متماسكة يتأَلَّف منها هذا الورق المصنَّع بدقَّة مُتْقَنَة يختصُّ بها اليابانيون. وهو يسمى خطَأً في الغرب “ورق الأَرُزّ” أَو “ورق الحرير” أَو “ورق التوت الأَبيض” الذي تقتات منه دودة القزّ لتغزل به خيوط الحرير.
صديق الفنانين
يستعمله الموسيقيون لطباعة نوتاتهم الموسيقية، والفنانون التشكيليون في محترفاتهم للمحفورات والمائيات والكولاج والرسم على المعادن وفي بعض المواد لصنْع التماثيل والأَنصاب وسواها. ذلك أَنه، على رقَّته، يبقى صلْبًا وعصيًّا على التمزُّق بما يكتنز من خصائص كيمياوية متينة.
أَوَّل مَن استخدمَه من التشكيليين الأُوروپيين كان الرسام الهولندي رامبرانت (1606 – 1669) لِمَا وجد فيه من نعومة الحرير، وتضليع الصَدَف، ولونه الأَصفر الصافي أَو المائل بعضه إِلى الرمادي. كان رائدًا سبَّاقًا باستخدامه في رسم أَعماله وفي تقْنية طباعتها. اكتشفه نحو سنة 1647، وأَبرز ما اشتهر من أَعماله المرسومة والمطبوعة على ورق “الواشي”: رسْمُهُ ابنَه تيتوس. واللوحةُ لا تزال حتى اليوم في متحفه (أَمستردام) وتبدو أَنها مطبوعة حديثًا، بفضل تقْنية ومادَّة لم يكتشفهُما الفنانون الغربيون إِلَّا بعد سنوات طويلة.
استعمل رامبرانت هذا الورق للرسم ولطباعة أَعماله منذ 1647 حتى لوحته الأَخيرة سنة 1665. واليوم يبدو الفرق واضحًا بين أَعماله المرسومة والمطبوعة على ورق “الواشي” (بتنويعاتها البُنّيّة والصفراوية والعاجية الناصعة الملونة واللماعة) وتلك المرسومة على الورق الغربي العادي الجافِّ الالتماع.
وبلغ من أَهمية استعماله هذا الورقَ أَن أَقام متحفه في أَمستردام (حزيران/يونيو 2015) معرضًا خاصًّا لأَعماله المرسومة والمطبوعة على ورق “الواشي”. فهو إِلى إِبداعه في الرسم، كان مبدعًا في طباعة الأَعمال لاكتشافه في ورق اليابان مادة تطيل عمْر اللوحة فلا تندثر مع الزمن.
والذين من تلامذة رامبرانت ومعاصريه استخدموا هذا الورق تميَّزت أَعمالهم كذلك واقتناها أَكثر من سواها هواةُ جمْع اللوحات. وهذا ما حدا بأَتباع رامبرانت في القرن الثامن عشر إِلى اعتماد هذا الورق.
في الذاكرة
اليوم، والطباعةُ الورقية تنحسر، كتُبًا ومطبوعاتٍ ودوريات، وتتَّسع القراءة على الشاشات المحمولة أَو المكتبية، ماذا سيكون مصير “الواشي”؟
أَغلبُ الظن أَنه سيبقى رفيقَ الفنانين التشكيليين، رسْمًا وطباعةً، وسيظل فخرَ اليابان متصدِّرً لائحةَ تراثِها غير المادي، ذاكرةً لصناعةٍ حِرَفيةٍ لن تمحوها اكتشافاتُ الحاضر ولا إِلكترونياتُ المستقبل.
كلام الصوَر
- كتابةُ القصيدة : رسْمٌ على ورق “الواشي”
- تيتوس ابن رامبرانت: رَسَمَه وطبَعَهُ على ورق “الواشي”
- نقْشٌ ملوَّن على ورق “الواشي”
- الكتُب تتباهى بطباعتها على ورق “الواشي”
- تقْنية تصنيع ورق “الواشي”: تقْنية حِرَفيَّة مُتَوَارَثة