هنري زغيب
مرَّ في الجزء الأَول من هذه الثلاثية (الثلثاء الماضي – “النهار العربي”) أَن “النادي التقدُّمي السُوري الأَميركي” في ديتْرُوْيْت (متْشيغان) أَقام احتفالًا تكريميًا لجبران في “الصالة العربية” الفخمة من فندق تَلِر، حضره جمع كثيف من الجاليتَين اللبنانية والسورية في المدينة. وفي كتاب “أقلب الصفحة يا فتى” الصادر سنة 2010 عن لجنة جبران الوطنية بتحقيق وهيب كيروز حافظ متحف جبران (بشرّي)، لفَتَتْني مخطوطةٌ على ورقة تجارية باسم “محلات شاميّة إِخوان للخُضَر والفواكه” – ديترْوْيْت، فيها مخطوطُ الخطاب تقديمًا جبرانَ في الاحتفال. نشرتُ قسمًا أَولَ من الخطاب، ولم أَتمكَّن من معرفة صاحبه، عسى مَن يقرأُه في “النهار العربي” يفيدُني عنه فتكتمل المعلومة.
النابغة كتابةً ورسمًا
في القسم الأَول كان الخطيب يتحدَّث عن حضور جبران الأَدبي، وهُنا قسمٌ منه ثانٍ:
“… هذا قطْرٌ من طَلّ، وبعضٌ من كُلّ، من وصف نابغتنا العزيز المبدع الذي استَنبَط للُّغة العربية المحبوبة طريقةً كتابية مبتكَرة تنمُّ عن سلاسة، وتكشف عن عذوبةٍ ورُواء، يتمشَّى عليها الكثيرون وينسجون على منواله، وأُعجِبَ بها الكثيرون من أُدباء المهجر والوطن، وقَرَّظَتْها تقريظًا مجيدًا كبرى الجرائد وخيرةُ المجلات العربية التي قلَّما يَصدر جزءٌ منها إِلَّا وهو مزدانٌ بنبْذة بليغة أَو بمقالة نفيسة من يراعة هذا الكاتب الكبير المبتكر.
نابغتُنا، يا قَوم، لم ينحصر تَفَوُّقُه في اللغة العربية بل تخطَّاها إِلى اللغة الإِنكليزية أَيضًا. فهو كاتب مُجيد في اللغة الإِنكليزية كما هو في اللغة العربية. وله من التآليف الممتازة في اللغة الإِنكليزية مثلما له من المؤَلَّفات المستحَبَّة باللغة العربية. وقد شُغِف أُدباءُ الأَميركيين بأُسلوبه الكتابي الجميل، وكان إِقبالهم على اقتناء كتُبه المطبوعة عظيمًا، حتى أُعيدَ طبْع تآليفه الجميلة مرَّاتٍ متوالية، تلك الكتب النفيسة التي قرَّظَتْها أُمهاتُ الجرائد الأَميركية، وأَثْنَت على مؤَلِّفها السوري النابغة ثناءً مستطابًا.
ثم إِنكم لَتَزدادُون إِعجابًا ببَدْر هذه الحفلة، إِذا ما علمْتُم بأَن يراعته البيانية تُضاهيها حُسنًا وجمالًا ريشتُهُ التصويرية. فهو رسَّام ماهر مثلما هو كاتبٌ مُجيد. فقَد ورَد في “الفنون” بأَن لجبران النابغة اسمًا في غير الآداب، ولحياته الروحية أَثمارًا غيرَ الكتُب والدواوين. إِنَّ له – عدا ذلك – اسمًا عاطرًا وصيتًا ذائعًا في فن التصوير. وله من الآثار في هذا الفن الشريف ما جعَل له مكانة سامية في عالم الفن الأَميركي، يعترف بها الناقدون الخبيرون. وقد جاء بهذا المعنى في جريدة “كريسْتشِن سايِنْسْ مونيتور” الأَميركية ما تعريبُه: “جبران سُوريٌّ ولِدَ في مُتَحَدِّرات لبنان الغنّاء العريقة في القِدَم. والظاهر أَن التخيُّلات الشعرية الشرقية بغوامضها الباطنية ثبُتَتْ فيه، رغم التغييرات الجوهرية التي انتقَل إِليها أَثناء درسه الأَدب وتعاطيه التصوير سنين عديدة بين باريس ونيويورك”.
تقريظ نسيب عريضة في”الفنون”
هذا، وإِنه لَيَلَذُّكم أَن تعرفوا شيئًا عن حياة نابغتنا الاجتماعية وأَمياله الفلسفية. ولقد قيل بأَن ريشة الكاتب تنمُّ عن روحه. فالذي يطالع كتاباتِ جبران العديدةَ، يتمثَّله زاهدًا من أَكابر الصوفيين أَو ناسكًا من كهنة البوذيين. وأَفضلُ وصفٍ لأَمياله ونظرياته في الحياة، ما جاء في مقدمةِ كتابه “المواكب” بقلم أَحد عُشاقه ومريديه: الكاتب الأَلمعي نسيب عريضة حيث قال: “كان جبران في شعره ونثره في كل حياته الكتابية متمرِّدًا. يعرف ذلك كلُّ مَن طالع كتُبَه، وأَهمُّها “الأَرواح المتمرِّدة” و”الأَجنحة المتكسِّرة”. ففيها يقفُ جبران وأَبطالُه وبطلاتُه متمرِّدين كلَّ التمرد، لا على عدُوٍّ ظاهر حقير بل على الحياة نفسها. وهنا في “المواكب” يظهر تَـمَرُّدُ جبران. فهو ينزَع إِلى حل ما في شواعر الحياة من حسَنات وسيِّئات، وهو يرمي في “مواكبه” إِلى تأْليه الغاب. وأَما الغاب التي يقصدُها الشاعر في قصيدته فليست غابًا بمعناها الضيِّق بل هي الطبيعةُ بأَسْرها، هي التمرُّدُ على العادات والشرائع الفاسدة، وهي التمرُّدُ على كل قيدٍ، والرجوعُ إِلى بساطة الحياة الخالية من الزخرف الفاسد والبهرجة القتَّالة…” ]انتهى مقطع نسيب عريضة[.
في الجزء الثالث من هذه الثلاثية: المقطع الأَخير من الخطاب والتعليق عليه (“النهار العربي” – الثلثاء المقبل)
كلام الصور:
- مقطع من الخطاب مكتوبًا على الورقة التجارية (“شاميّة إِخوان – ديترُوْيْتْ مِتْشِيغَان”)
- مخائيل نعيمه ونسيب عريضة (على طَرَفي الصورة) يستشهد بهما الخطيب في خطابه
- فندق تَلِر حيث كان الاحتفال
- الصفحة الداخلية الأُولى من مجلة “الفنون” لنسيب عريضة